اغتصاب الحب

بدأت اجراس دير القديس برسوم بانطاكيا تدق بلحن حزين اليوم كله، وتسلل الشعب الانطاكي في خطوات سريعة نحو كنيسة الدير. لقد ترك الكل اعمالهم، حينما علموا الخبر، وملامح اليتم بادية على وجوههم، وازدحمت مداخل المدينة بافواج من الاباء المطارنة والاساقفة والكهنة والشمامسة والرهبان مع حشود ضخمة من الشعب قادمين من كل حدب وصوب يبكون الاب الروحي ديونيسيوس بطريرك انطاكيا وسائر المشرق.

اضطر شمامسة الكنيسة امام هذا الزحام الرهيب ان يقوموا بتنظيم الدخول الى الكنيسة ، فقد اجلسوا الجثمان المقدس مرتديا الثياب الكهنوتية كاملة على الكرسي الرسولي امام المذبح الالهي. وقد وضعوا صليبا في اليد اليمنى للبطريرك الراحل وعصا الرعاية في اليد اليسرى. وكان المؤمنون يدخلون كل في دوره ليسجد في خشوع امام المذبح ثلاث مرات بقلب منسحق لكن في تسليم كامل لمشيئة الله، ثم يرجع ليقبل الكتاب المقدس ثم صليب البطريرك ويمينه. طالبا بركة صلواته وسائلا النياح لنفسه، ثم يخرج ليترك المجال لغيره. وهكذا انقضت ثلاثة ايام حتى حان موعد الصلاة الجنائزية.

بدأ اقدم المطارنة الصلوات الجنائزية بالصلاة الربانية وارتفعت صلوات الشكر لله صانع الخيرات، وقد تلتها مزامير التسبيح مع قراءات معزية من الكتاب المقدس تكشف عن قوة القيامة والحياة الابدية.

ارتجل اقدم المطارنة كلمة خرجت من اعماق قلبه، عبر فيها عن مشاعر رجال الكهنوت والشعب من اجل ما حل بهم بنياحة اب الاباء وراعي الرعاة، واطال الحديث عن فضائل الراحل مؤكدا ان حبه لن ينطفئ ورعايته لن تتوقف حتى بعد رحيله، فهو ان كان قد خلع الجسد فانما لكي يخدم على مستوى ملائكي روحي سماوي. خدمة الصلاة والشفاعة امام العرش الالهي. واخيرا ختم كلمته بشكره مندوبي ووفود الكنائس الذين جاءوا يشاركون كنيسة انطاكية الامها.

واذ اختتمت الصلوات حمل الاباء الكهنة ابيهم على كرسي وصاروا يطوفون به داخل الكنيسة، في موكب كنسي رهيب، وقد تدفق الكثيرون وتدافعوا يريدون تقبيل البطريرك الراحل.

اخيرا دخلوا به الى مقبرة الاباء البطاركة بجوار مذبح كنيسة الدير. وبقى هكذا حسب الطقس جالسا على كرسي يحمل صليبه وعصاه، لا يرقد في صندوق- وكأنه لا يزال حيا يعمل في كنيسة الله، فقد انضم الى البطاركة السابقين يشترك معهم في الرعاية من خلال صلاته من اجل اولاده بل ومن اجل البشرية كلها.

البطريرك الحزين:

كانت الايام تمر على الكهنة والشعب الانطاكي كأنها سنوات طوال، الكل يترقب كيف سيتم انتخاب البطرك القادم؟ ومن سوف يكون؟ كانت الصلوات ترتفع من الحناجر بحرارة، حتى الاطفال اشتركوا في الصلاة، واقيمت القداسات من اجل هذا الامر.

انعقد المجمع المقدس ، حضره الاباء الساقفة وان كان قد تغيب جاثليق (رتبة اعلى من الاسقف واقل من البطرك) العراق الانبا توما والاساقفة التابعين له، اذ لم يعلمه المجمع المقدس بسبب خلافات سابقة نشبت بينه وبين البطريرك الراحل.

على اي الاحوال، عرضت اسماء المرشحين للبطريركية في جلسة مغلقة، وما انظهر اسم الاب يوحنا حتى اظهر الكل استحسانهم وظهرت علامات البهجة على وجوههم. ولم تمض الا لحظات بسيطة حتى خرج اقدم الاباء المطارنة ليعلن على الملأ خبر اجماع المجمع على تنصيب الاب يوحنا بطريركا. كان للخبره اثره المفرح على قلوب المؤمنين، اخيرا تحول حزنهم الى فرح.

في يوم التنصيب انطلقت اجراس الكنائس تعلن فرحة الشعب بتنصيب الاب الجديد. وقف المرشح حانيا رأسه نحو الارض والدموع تنساب من عينيه. وقد ارتسمت امام عيني ذهنه صور كثيرة: تارة يرى نفسه امام الله، الراعي الاعظم يطالبه بتقديم حساب وكالته ويسأله عن دماء الذين اهمل في رعايتهم فهلكوا. واخيرا يرى نفسه راكا امام المذبح ليحمل الرب عن كاهله اتعاب الرعاية. وقد تحولت اتعابه الى اكاليل مجد.. ثم تارة يعود بذاكرته الى حياته الاولى حين خرج من العالم وقد وضع في قلبه الا يعود اليه ثانية، ويرى نفسه بين اخوته الرهبان وقد كرس كل حياته للصلاة والتسبيح.

وسط هذه الافكار الكثيرة التي حاصرت ذهنه وجد الاب يوحنا نفسه ملتزما ان ينسحب عن هذه الافكار ولو الى حين ليرفع قلبه لله مشتركا مع الاباء في صلوات القداس الالهي، حتى اذا ما حانت لحظات حلول الروح القدس تقدم اقدم المطارنة الى حيث الاب يوحنا ليبدأ صلوات التنصيب.

نسى كل الحاضرين ما كان يلزم ان يتم في هذه اللحظات وهي ان الجاثليق هو الذي يتقدم المطارنة والاساقفة ولكنه لم يكن حاضرا، اذ ان المجمع المقدس لم يشركه في امر اختيار البطريرك الجديد، ولا اعلموه بموعد التنصيب، لكن فرحة اختيار الاب يوحنا انستهم هذه المشكلة تماما فتم التنصيب دون السؤال عن الجاثليق.

سأل اقدم المطارنة الاب يوحنا قائلا:

“اختارك الروح القدس بطريركا لانطاكية وسائر المشرق، فهل تقبل؟”

صمت الاب قليلا، وفي صوت خافت والدموع تنساب من عينيه اجاب: نعم

عندئذ تقدم كبير المطارنة وقبل يمينه وفي لحن سرياني جميل وطويل انشد الكل:

“طوبى للعبيد الامناء، اذا جاء سيدهم ورآهم يصنعون مشيئته”

اذ انتهى اللحن السابق احضر الاباء عصا الرعاية وتقدموا بها امام مائدة الحياة، بينما انطلقت الكنيسة تهتف بلحن سرياني قصير:

“ليعط الرب عصا العز من صهيون لتتسلط على اعدائك (الروحيين) وترعى بني شعبك”

***

لا.. لن يستريح قلبي:

بعد انتهاء الصلوات بقى الاب يوحنا الخامس وسط رجال الكهنوت وشعبه ساعات طوال يتقبل تهنئاتهم.. بعدها دخل الاب قلايته بالبطريركية واغلق بابه، وهنا دارت الدنيا به، وارتمى ارضا، وبالكاد رفع رأسه ليسندها على الكرسي وبدأ يتمتم بكلمات غير مسموعة. كان قلبه يلتهب نارا، يصلي من اجل كل احد، لكنه فجأة بدأ يناجي نفسه:

ماذا افعل مع الجاثليق؟

لقد تجاهله المجمع المقدس تماما في امر اختياري وفي تنصيبي!

هل يستريح قلبي، وهذا الاب في حالة تعب شديد؟

ماذا افعل مع هذا الاب المعروف بشدته؟

ان انشقاقا يحل بالكنيسة لا محالة وانا اكون السبب.

لا.. لن يستريح قلبي ان لم يسترح قلب الجاثليق!

اني اب وملتزم بعلاج الموقف.

صلى بدموع غزيرة، ولم تمض الا ايام حتى طلب انعقاد المجمع المقدس، حيث اعلن لهم انه قد سمع عن انشقاق الجاثليق عن الكنيسة بسبب تنصيبه بطريركا دون وجوده. وبروح متضعة طلب منهم المشورة، لكنه اذ رأى ان بعض الاباء في ثورة ضد الجاثليق طلب منهم بلطف وباتضاع ان يصلوا عنه، وان يسمحوا له بعلاج الموقف كما يرشده الرب. في محبة كاملة وثقة وافقوا.

اخيرا انصرف كل مطران واسقف الى ايبارشيته، اما هو فدخل مخدعه يصلي.

الراهب الغريب

قبل ان تبدأ صلوات القداس الالهي في تكريت، دخل راهب سرياني الى الكنيسة بلباس رخيص، يبدو انه قادم من طريق طويل، فقد ظهرت عليه علامات الارهاق الشديد، كما امتلأت ثيابه بغبار الطريق. احنى الراهب رأسه نحو الارض وهو يسير بخطوات جادة بطيئة حتى الى الهيكل، حيث سجد ثلاث دفعات وهو يصلي ثم رشم الصليب. عندئذ قبل الانجيل والايقونات المقدسة، واخيرا وقف امام الجاثليق وضرب ميطانية حتى الارض، ثم قبّل الصليب الذي بيده، وهو يقول: صل عني يا ابي، فاني خاطئ. ثم انضم الى صفوف الرهبان يشترك معه في التسبيح والالحان.

لم يلفت هذا المنظر احد، فقد اعتاد بعض الرهبان ان يأتوا الى هذه الكنيسة لغرض او اخر.  لكن وقوف هذا الراهب الغريب بخشوع واستقامة ونظراته الوديعة وترنمه بروحانية سحب قلب الجاثليق وكل الحاضرين حتى استدعاه الجاثليق وسأله عن اسمه وعن ديره، ثم سأله ان كان يبقى معه في الكنيسة، فاجاب الراهب: اني غير مستحق يا ابي الجاثليق ان اجد هذه النعمة في عينيك”.

اذ جاء موعد الغذاء اجتمع الجاثليق مع الاباء الكهنة والرهبان وعرفهم بالراهب الجديد، فرح الكل به. وبعد الطعام، وينما عرفوا انه قادم من انطاكية بدأوا يسألونه ان كان يعرف البطريرك الجديد، اجابهم:

“اني اعرفه، انسان بسيط”.

سألوه ما موقف المجمع المقدس، اما هو فاجاب اني لا اتدخل كثيرا مع اعضائه، لكنني على ما اظن وما سمعت ان الجميع يشعرون بندم، ويشتهون لو وجدوا الوسيلة للاعتذار للاب الجاثليق واساقفته.

استطاع الراهب بلطف وحكمة ان يحول دفة الحديث بعيدا عن المشكلة، وصارت الجلسة روحية رائعة.

وجد الراهب نعمة في عيني الجاثليق والكهنة والشعب حتى تحولت قلايته التي اعطاه اياها الجاثليق في دار المطرانية الى قاعة اجتماعات روحية دائمة.

كان الجاثليق في ليال كثيرة يفتقد الاب الراهب ليجلس معه. يتحدثان معا حول كلمة الله، وسير القديسين، والترنم بالتسابيح الكنسية. كثيرا ما كان يتحدث الاب الجاثليق مع الراهب عن بعض المشاكل الكنسية والراهب في اتضاع ورقة يجيب بكلمات تطيب خاطره.

لم تمض الا ايام قليلة على قدوم هذا الراهب حتى ول نبأ نياحة الاب جرجس مطران ارض العرب التابعة للجاثليق، فحزن الاب الجاثليق عليه جدا، واضطر ان يترك تكريت ليرأس صلاة التجنيز. وهناك بدأ الشعب يسأله عمن يحل محله، فاجابهم ان لديه راهب من انطاكية يصلح لهذا المركز.

سرعان ما انتشر الخبر ،حت اذ عاد الجاثليق ورفقائه كان الخبر قد ملأ تكريت، فجاء الكهنة وكثير من الشعب يهنئون الراهب على سيامته مطرانا ويعلنون اسفهم الشديد على تركه اياهم.

اسرع الراهب الى الاب الجاثليق يعزيه في انتقال المطران، فربت الجاثليق على كتف الراهب، وهو يقول له: “ان عزائي الوحيد ان الله يسندك في مهمتك الجديدة!” عندئذ بدأت الدموع تنهمر من عيني الراهب وهو يقول: “حاللني يا ابي فاني لا اصلح لهذا المنصب”.

“انا اعرف انك انسان متضع، والرب يعمل فيك من اجل اتضاعك. اني واثق ان الرب الذي وهبك هذه الايام القليلة نعمة في اعين الجميع يعمل فيك ايضا بعد سيامتك، وستكون بركة لكثيرين”.

عندئذ ضرب الراهب ميطانية امام الجاثليق حتى الارض وهو يقول:”يا ابي سامحني، اني اريد ان اكون لك تلميذا. اني محتاج الى بركتك. اعفني من هذه السيامة”.

حاول الجاثليق ان يقنعه بكل الطرق فلم يفلح، اخيرا سأله الراهب: “اسمح لي يا ابي ان اعترف لك، فانك لا تعرفني جيدا. ان كان احد قد اخطأ فماذا يفعل؟”

فكر الجاثليق قليلا وادرك ان الراهب يعترف بخطية معينة يظن انها تعوقه عن السيامة فاجاب: “ان الله محب البشر، وغافر الخطايا يا ابني”.

لم يحتمل الراهب الموقف، فبكى بشدة، وهو يقول “با ابي، اني اخطأت كثيرا في حق الله وفي حقك”.

اخذ الجاثليق يربت على كتفي الراهب وهو يقول : “لا تقل هذا فاني احبك”

عندئذ صنع الراهب ميطانية وهو يقول: “اتغفر لي يا ابي؟ انا عبدك البطريرك يوحنا الذي قبلت التنصيب دون استشارتك ودون نوال بركتك”

لم يحتمل الجاثليق الموقف بل ارتمى على عنق اللاب البطريرك يبكي بمرارة، وطالبا الصفح عن كل تصرفه صدر منه او كلمة خارجة جارحة خرجت من فمه ضده.

القمص تادرس يعقوب ملطي

يوميات وحيد #6

westnewyorkgirl

وخرج وحيد فركب سيارته ومضى الى مكان خال ليتنفس الصعداء به، لقد شاء فترة من الراحة بين رحاب الطبيعة الساحرة وقلب النظر يمنة ويسرة وفي كل صوب واتجاه يتنشق الهواء العليل بسرور وابتهاج. واستل من حقيبته ورقة ليداعب افكاره، فتناول القلم وراح يكتب:

انا الان اجلس وحدي. المناخ معتدل والطقس منعش لطيف يبعث في النفس صحة ونشوة. انشرح صدري لان جمال الطبيعة يفرض نفسه على المرء فرضا. الطبيعة دائما لها مسحة من الجمال لا يحسن التعبير عنها الا الشاعر ولا يراها الا كل متأمل. وانا الان مسحور بجمالها، فالسماء والارض والهواء والجبل والشجر ايات من الفن الجميل. هنيئا لمن يستطيع ان يرسم لوحة فنية لهذه المناظر الخلابة، او ينظم قصيدة في وصفها.

وجد نفسه مدفوعا للتفكير في حديثه السابق مع بيير وجانيت بخصوص الزواج فراح يكتب:

“الموضوع مطروح عليّ. انما لم ينضج. اميل الى الجميلات المتعلمات. انما فوجئت اليوم بفكرة اخرى: “المرأة الفاضلة من يجدها؟ هل الزواج حاجة جسدية وفى؟ الحقيقة هي ان الزواج ابعد من الحاجات . الرجل يشقى في الحياة، والمرأة تخفف من وطأة شقائه وويلات حياته. والمرأة تحمل الزوج كصليب، والزوج مصلوب ايضا. وكيف يتحمل الاثنا بعضهما البعض كصليب دون المحبة؟ فهما في الفضيلة دون ان يدريا، والمحبة هي سدى ولحمة زواجهما. لولا المحبة والفضيلة لما استطاع زواجهما ان يصمد امام تقلبات الحياة.

الزواج صليب والصليب حلو، لانه رمز وحياة. رمز لاعظم حب عرفه الانسان – محبة الفادي للانسان، وحياة واقعة لابد ان تعاش، كل احتكاك يومي بين اثنين ذو حلاوة ومرارة. ولكن الحب الزوجي وقدوم الاطفال يغلّب الحلاوة.

الزواج حلاوة، وقلب الزوجين يختلج على الدوام: من نظرة، من كلمة، من فكرة، من موقف، من ملاحظة يبديها احدهما للاخر ، من دمعةن من حركة وجه او يد، من اطراقة فكر او  او او الى ما لا نهاية

وحيد #1

star

كانت صفحة البحر ساكنة تتألق تحت اشعة الشمس الغاربة الذهبية، وراحت الباخرة تمخر عباب البحر بكبرياء وفي كل ثانية يبتعد فيها عن اطلال الكوخ الذي ترعرع فيه في طفولته البائسة وكان يدفن في الزمن الهارب قطعة من ذاته.

اتكأ جميل على الافريز يتأمل في الامواج المتلاطمة في غسق الغروب واستغرق في ذكرياته. انه الان في التاسعة من عمره، وقد خطّ ازميل الحياة على جبينه بعض الخطوط الواهية المتغضنة المثقلة بالاحزان، وسرى في محيّاه شحوب خفيف قلما تشاهده في الوجوه الفتية. خيل اليه انئذ ان وطنه اثمن من كل ما في الوجود من كنوز.. جلس قرابة الساعة مستغرقا في افكاره.. واخيرا مضى نحو قمرته بخطى متثاقلة كمن يجر خلفه متاعب الحياة.

في طريقه التقى بطفلة صغيرة تبكي.. ادرك انها تبكي لانها فقدت والدتها. اخذ يربت على كتفها بحنان بالغ.. تطلعت اليه الفتاة الصغيرة بعينين خائفتين تترقرق فيهما الدموع وقالت بصوت متهدج:

– لقد ضللت طريقي.

فحاول ان يبتسم واجاب بصوت مضطرب:

– ما اسمك؟

فاجابت بنبرة وجلة:

– اسمي مي.

ولكن ها هو الماضي يطارده حتى انه لا يكاد يصدق ان ما يراه امامه هو صورة مصغرة من هانا الفتاة التي احبها ولكنه لم يوفق في الارتباط بها.. وفجأة توقفت الفتاة عن النشيج فجأة. كانت الطفلة قد لمحت والدتها التي كانت تبحث عنها بجزع على ظهر السفينة.

وتشوب محياه مسحة من الاسى.. ما اشد الشبه بين الام وابنتها انها تكاد تكون نسخة مكبرة عن طفلتها بل ما اشبهها بهانا، تلك الفتاة التي احبها من صميم قلبه وكان يحلم بالزواج منها ولكن حال القدر بينه وبينها..

ملائكة وشياطين

cxj5xcpvaaawwo7

نحن في ريف فرنسا نحو عام ١٩٠٠م. بين اسرة ريفية صغيرة مكونة من اب مزارع اسمه فيركور وزوجته الطيبة وبنتاه ، الكبري تدعى فيولين والصغرى مارا. كان احد المهندسين ويدعى بيير قد نزل حينا في ناحية كومبرنون الريفية بشمال شرق فرنسا حيث يقام احد الجسور على النهر، وكان يتردد من حين لاخر على اسرة فيركور. والان وقد فرغ من مهمته فهو يتأهب للرحيل.

نشأ بين فيولين وبيير شئ اشبه بالتيار الكهربائي .. اهو الحب؟ لا. لم يكن الحب، لأن الفتاة فيولين البسيطة تحب شخصا اخر، لقد كانت تحب جارها الفلاح البسيط الشاب جاك هوري وتأمل في الزواج منه. ولكن الفتيات في ريف فرنسا كالفتيات في اكثر ارياف الدنيا، يكتمن عواطفهن ولا يخترن الازواج انتظارا لقرار الاب والام. ثم ان بيير كان يكبرها باكثر من  عشرين عاما… ومع ذلك فقد كان بينها وبينه سر كاسرار الروح التي لا تعرف ولا يباح بها. كان قد وعدها بلقاء اخير قبل رحيله الى مقر عمله الجديد ليودعها. وحين  لم تره لم تنم الليل بل سهرت في ثيابها كاملة بعد ان هجع كل من في البيت حتى الهزيع الثالث من الليل، ومن مطبخها سمعت الديكة تصيح مرتين، كأنما كانت تنتظره. محال ان يرحل هذا الزائر الغريب دون ان يقول الوداع.

واذا بطارق يطرق شباك المطبخ برقة قبل الساعة الرابعة صباحا. وتفتح فيولين الشباك. انه بيير وتجفل فيولين لحظات. من اذن لك ايها الغريب ان تدق شباكي في هذه الساعة المتأخرة من الليل وكأنك رب هذه الدار؟

وماذا تفعلين انت في ثيابك الكاملة حتى هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ لا شك انك كنت تنتظرين قدومي… لا تخافي. انا ما جئت الا لاقول الوداع. اني احبك حب الاخ لاخته، وكان لابد ان اراك قبل رحيلي. انما جئت لاقول كلمتي:

“بين ابيك وامك حيث ولدت،

كبرت ايتها الفتاة كما تكبر الشجرة في البستان

سعيدة انت بشبابك، لا تعرفين ما الالم.

وهذا، يا فيولين ما يسمونه الشقاء.

وهو العناء وهو الدمار وهو العار..

اي فيولين! بين لحظة القمر ولحظة الشمس.

هذه احلك ساعة في الليل، حيث السبات احلك سبات،

وحين لا نعرف الامس من الغد.

اي فيولين! هناك من لا يرتووا الا اذا شربوا من ينبوع الحياة..

شقي من لم يعد يعطش..

شقي من ارتوى فمه فارتوى قلبه.

القلب يظمأ للفضيلة الى ان يحمل الانسان صليبه..

الحب الحقيقي لا يعرف النوم ولا الراحة..

كيف تفهمين كلامي اذا قارنت الموت بالحياة؟

حب المرأة للرجل شبيه بانسحاق الموت.

شبيه بقرار الساعة الاخيرة.

فمن تعاهد الموتى يولد الفاني الجديد.

اما الحب الاخر فهو بكل باب يفضي بنا الى الحياة..

العطش الذي لا يروي، عطش لينبوع لا ينضب”.

هذه كلمة. اما الكلمة الثانية فهي:

“العطاء اقتداء بكرم الله.

ومن يضحي بنفسه يقدس نفسه يا فيولين”.

هذه هي الكلمات الجميلة الغريبة التى القى بها بيير الى فيولين وهي تستمع اليه مشدودة كأنما بقوة مغناطيسية… وقبل ان يرحل بيير قبّل فيولين على خدها وهو يقول الوداع، قبلة الاخ لاخته.

وكانت الاخت الصغرى مارا قد ايقظها ما دار من حوار في هدوء الليل، فمشت الى المطبخ ولكنها لم تر شيئا اكثر من قبلة الوداع، ولم تسمع شيئا لانها وصلت في اللحظة الاخيرة… وحين رأت مارا بيير يقبّل اختها هزت كتفيها في استغراب وانصرفت، وهي تضمر شيئا رهيبا.

وكان الاب الشيخ فيركور قد عرف من بيير من قبل شيئأ اقض مضجعه. كان لفيركور اخ اصغر مغامر محب للحياة هاجر في شبابه لامريكا لانه ضاق بالريف وبفرنسا كلها وراح يجرب حظه في الدنيا الجديدة، وهناك تزوج وانجب ثم انقطعت اخباره.

والان عرف فيركور ان اخاه قد مات، فاعتزم ان يسافر الى امريكا بحثا عن اسرة اخيه المتوفي ليكفلها، او عن تركة ان كانت له تركة ليتصرف فيها.

ولكن قبل تنفيذ قراره هذا ، كان لابد له من ان يرتب كل امور بيته لأن غيبته قد تطول. ان امامه مشكلتين عاجلتين هما مشكلة ارضه التي افنى عمره في تنميتها، ومشكلة زواج بنتيه فيولين ومارا. وفي ريف فرنسا كما في كل ريف اخر لابد ان تتزوج البنت الكبرى قبل الصغرى. ولم يكن الامر معقدا ، لان فيركور كان يثق في جاره الفلاح الشاب جاك ويعرف انه رجل جاد رزين يمكن ان يأتمنه على ابنته فيولين وعلى حماية اسرته ، وهو ايضا يعرف ان جاك يحب ابنته حبا عميقا، رغم ان الفلاحين لا يتصارحون كثيرا في امور الحب.

وهكذا قرر فيركور الشيخ تزويج ابنته فاستدعى الزوجة والابنتان ويعلمهم بقراره. اما فيولين فتستقبل القرار في ابتهاج صامت اما مارا الاخت الصغرى فقد وقع عليها هذا النبأ وقع الصاعقة لانها كانت تعشق جاك وتتمنى ان تتزوج منه… وهكذا وقع المحظور: شقيقتان تحبان رجلا واحدا. وكانت هذه بداية المأساة.

عرض فيركور على الفلاح الشاب جاك يد ابنته المبرى فطار من الفرح لان كل احلامه قد تحققت. وما ان انطلق فيركور في رحلته الى امريكا حتى اختلت البنت الصغرى مارا بأمها وطلبت من امها ان تمنع هذا الزواج. يجب ان تبلغ الام فيولين ان تترك جاك لمارا لان مارا تحبه … وعبثا تحاول الام مارا بان فيولين هي الكبرى ويجب ان تتزوج اولا وان هذه هي ارادة الاب وان جاك نفسه يحب فيولين.

لكن مارا كانت تشعر ان كل من في البيت يكرهها ويحابون فيولين على حسابها، حتى عند قسمة الضيعة بين بنتيه، فقد اختص الاب فيولين باخصب جزء من ارضه وترك لها الارض الجدباء والادغال وغير المثمرة. انها تكره من اعماق قلبها فيولين المدللة لأنها تسلب كل حق لها، تسلبها ارضها وتسلبها من تريده زوجا لها، كما سلبتها من قبل تدليل الاب وحنان الام. كلا لن يتم هذا الزواج ومارا تعرف كيف تجعل جاك ينصرف عن فيولين ويتخذها هي زوجا له.

وتبلغ الام فيولين بما قالته مارا، فتضطرب من اعماقها وتهيم فيولين في الحقول وقد انتابها شعور غريب بأنها موزعة بين نداءين: نداء حبها لاختها التي تعرف انها تحب جاك، ونداء حبها لجاك ورغبتها في الزواج منه.

ويأتي جاك ليزور عروسه المستقبلة فلا يجدها في الدار. و تنفرد به مارا، وبخبث الافعى توحي اليه ان اختها فيولين تهيم هنا وهناك بلا ضابط ولا رابط وراء حبيبها الكهل بيير الذي رآته بعيني رأسها يقبلها في المطبخ، في فجر ذلك اليوم. ويضطرب جاك رغم انه لا يصدق ما يسمع، ويخرج باحثا عن فيولين فيجدها على عهده بها الفتاة الرقيقة البريئة الخجول. انه لا يصدق ما سمعه ولكنه يريد ان يتحقق بنفسه من ان فيولين تحبه ولا تحب اي رجل اخر. ومع ذلك فهو يحس بأن شيئا قد تغير فيها. انها دائمة الاطراق، نظراتها دائما منكسرة الى الارض. وحين يحدثها عن الحب والزواج يجدها ترده في وداعة وكأن ثمة امر تخفيه، وتصارحه فيولين بعدم رغبتها في الزواج به، ويستولي الغضب على جاك.

اذن فما سمعه من مارا صحيح، ولا شك انها استسلمت له كأى فتاة فاجرة. وتنتحب فيولين ولا تجيب بشئ اكثر من انها لا تتزوج منه. ومع ذلك فهو لا يزال يحبها وهو على استعداد لأن يتزوجها رغم سقطتها. و يأتيه الجواب دائما وسط نشيجها: لا، انها لن تتزوج منه. وهكذا انتهى الامر.

والان ، وقد نجحت مارا في ابطال زواج فيولين من جاك، فهي قد اعدت امرا شنيعا اخر. وتسأل اختها عن ان كانت تعد للزوج من بيير وتصرّح فيولين بأنها لن تتزوج ابدا.

ما دامت فيولين – تقول انها لن تتزوج ابدا، فما حاجتها الى نصيبها من الضيعة ، وما معنى تقسيم املاك الاسرة؟ أليس من الافضل ان تتنازل عن نصيبها لأختها الصغرى التي ستتزوج وبذلك يبقى كل شئ على حاله؟ لقد اعدت مارا وثيقة تنازل ولم يبق الا ان توقع فيولين الوثيقة . وبل تردد تمسك فيولين بالريشة وتوقع التنازل.

وما ان تفعل ذلك حتى تجفف مارا توقيع فيولين بحفنة من رماد ثم تقذف الرماد في وجه اختها في احتقار بارد، وتمتلئ عينا فيولين بالرماد فتصرخ من الألم وهي تكاد لا تبصر شيئا. وتصرخ مارا في وجه اختها:

– انني الان املك كل شئ . اني امقتك.. انك لا تزال تبصرين طريقك الى الباب. هيا اخرجي من هذا البيت فانا اعرف ان جاك يحبك، ولن اسمح ببقائك .. هيا اخرجي من هذا البيت الذي جلبت عليه العار.

– ولكن اين اذهب ؟

– الله يتولاك برعايته ايتها الحمقاء.

وهكذا تطرد مارا فيولين من بيتها بعد ان سلبتها زوجها ومالها. وتهيم فيولين في الوديان والغابات وقد فقدت بصرها بسبب حفنة الرماد.

هامت على وجهها في الغابات الجرداء تأكل من حشائش الارض وتنام في كهف، ومع ذلك فق كن يضئ في قلبها وور الهي اغناها بالبصيرة عن البصر. ولم يبق على جسدها الا اسمالا ثم اردية من القش والخوص… وشاع عن هذه العذراء العمياء انها تأتي المعجزات فتشفى المرضى وترد البصر الى العميان.

وتتزوج مارا من جاك ولكن كان العدل الالهي لها بالمرصاد، فمارا بعد ان تزوجت انجبت طفلا اعمى مثل خالته فيولن، مفتوح العينين لكنه لا يبصر، ضحية بريئة من ضحايا القدر، ليكون شاهدا ماثلا امام امه ليلا ونهارا على جريمتها النكراء.

وتسمع مارا عن هذه القديسة او الساحرة فيولين التي يأتيها الناس في كهفها لترد لهم البصر، فتحمل غلامها الى الغابة الجرداء وتلتقى الاختان، وتحمل فيولين الغلام النائم بين ذراعيها فيستيقظ من نومه فاذا بصره قد رجع اليه.

ولكن الحقد الاسود في قلب مارا لم ينتهي بعد، حيث عادت ذات ليلة الى الكهف مرة اخرى ثم اطبقت على عنق اختها وطرحتها ارضا وذهبت تحطم رأسها على حجر حتى غابت عن الوجود، ثم القت بجثتها في حفرة وغطتها باوراق الشجر…

وجدها اناس من القرية بينما كانت تحتضر، فبقيت لديها كلمات تريد قولها. نعم، انها كانت تحب جاك، ولكن قبلة بيير بدلت كل شئ. كانت مثل قبلة ملاك الموت على خدها، فعرفت ان الله قد اختارها لاشياء اخرى غير الحب والحياة. انها لم تكن تحب بيير كما كان جاك يتوهم ، ولم تره منذ افترقا ليلة القبلة حتى هذه الليلة حين وجدها جريحة في الغابة بين الموت والحياة. انها قد فجعت ان يظن جاك بها الظنون. انها لم تحب احدا غير جاك ، ومع ذلك فقد كانت تعلم ان اختها مارا تحبه ايضا، فضحت بنفسها من اجل سعادة اختها. انها تغفر لاختها ، فلولا انانية اختها لما استطاعت فيولين ان تتحقق انها قادرة على كل هذه التضحية. ان النهاية اقتربت وهي ترى الآن اخواتها في الالم: القديسة براكسيا، والقديسة سيسيليا.. انها لا تحب ان تدفن هنا، وهي بغير اب وام وزوج وولد. انها تريد ان تدفن في مقابر الفقراء والايتام.

وتلفظ فيولين انفاسها الاخيرة، فيغطي الرجال وجهها ويحملنها على محفة الى حيث طلبت ان يكون مستقرها الاخير.

***

ماذا نتعلم من هذه القصة؟

لا اقتراب الى الله الا بالحب، ولا حب الا بالعطاء، ولا عطاء الا بالتضحية، والله الذي خلق فيولين التي شابهت الملائكة، خلق ايضا مارا التي شابهت الشياطين. كما ان بيير الذي اعد فيولين لهذا هو رمز لانكار الحياة الدنيا والفناء في الحب الاكبر. انه هو الذي دلها على الطريق: طريق الحب والتضحية.

في ضوء القمر


“اكتسب الأب “مارينيان” بحق لقب ” رجل الله “. كان قساً طويلاً نحيلا ًمتعصباً إلى حد ما. و لكنه كان ‏عادلاً وذا نفس متسامية و كانت معتقداته ثابتة لا تتغير و لا تتبدل، فهو يعتقد انه يفهم الله فهماً واعياً كاملاً ‏و انه محيط بخططه و رغباته و نواياه. ‏
و كان أحيانا يتساءل و هو يتمشى في ممر حديقته في البلدة الصغيرة التي يعمل بها فيها ” لماذا فعل الله ‏ذلك ؟” و يفكر جاهداً و يرض عن نفسه في اغلب الأحيان إذ يجد الجواب و لم يكن الأب
‏” مارينيان ” من ذلك النوع من الرجال الذي يهمس في خشوع ” إن سبلك يا ربي أعظم من أن تدركها ‏مدارك الرجال ” بل كان يقول ” أنا خادم الله و علي أن أعرف السبب في أفعاله أو أن أتبين السبب إن لم ‏اعرفه ” و خيل إليه أن كل شيء في الطبيعة قد خلق بمنطق مطلق جدير بالإعجاب، و أن هناك دائماً توازناً ‏بين الأشياء و مسبباتها، فالشروق وجد ليبعث البهجة في نفس الإنسان و هو يستيقظ، و النهار وجد لينضج ‏المحاصيل، و الأمطار لترويها، و الأمسيات ليستعد الإنسان للنوم و الليل الحالك للنوم، و الفصول الأربعة ‏تتفق تماماً و حاجيات الزراعة . و كان من المستحيل أن يداخل الشك الأب ” مارينيان ” في أن الطبيعة لا ‏هدف لها. و أن كل كائن حي هو الذي يكيف نفسه وفقا للظروف القاسية للفصول و الأجواء و المادة ذاتها.‏
و لكنه كان يكره النساء . كان يكرهن من أعماقه، و يحتقرهن بالغريزة، و كان دائماً يردد قول المسيح
‏” مالي و لك يا امرأة ” و كان يضيف قائلاً أن الإنسان يستطيع القول إن الله ذاته غير راض عن المراة ‏التي خلقها.و كانت المرأة بالنسبة إليه هي الغاوية التي أغوت الإنسان الأول و ما زالت تزاول نشاطها ‏الملعون، و هي المخلوق الضعيف الخطير الذي يسبب قلقاً خفياً. و كان يكره روحها المتعطشة إلى الحب ‏أكثر مما يكره جمالها المسموم و كثيراً ما شعر بحنان النساء يداهمه فيضيق بذلك الحب الذي ينتفض دائماً ‏و أبداً في صدورهن رغم انه يعرف انه منه في حصن حصين.‏
و كان يعتقد أن الله خلق المراة لتغوي الرجل و تختبره و أن على الرجل ألا يقربها إلا و هو متسلح بالحرص ‏الذي يتسلح به و هو مقبل على كمين، فالمرأة في الواقع ليست إلا مصيدة بذراعيها الممدودتين و بشفتيها ‏المفتوحتين في انتظار الرجل. ‏
و كان الأب ” مارينيان ” لا يحترم ألا الراهبات اللاتي جردهن القسم من الهوى و مع ذلك كان يعاملهن ‏معاملة قاسية. إذ يلمح هذا الحنان الخالد الذي يخفق حتى في أعماق هذه القلوب الطاهرة يخفق دائماً و ‏يخفق حتى هو له و هو القس.‏
و كانت له ابنة أخت تعيش مع أمها في منزل صغير قريب من منزله و كان قد صمم على أن يجعل منها ‏راهبة. و كانت رقيقة خفيفة تتعمد إغاظته باستمرار. و عندما يعظ تضحك و عندما يغضب تقبله في حرارة و ‏تضمه إلى قلبها بينما يسعى هو بلا وعي إلى تخليص نفسه من بين ذراعيها ومع ذلك كانت تلك الضمة تثير ‏في نفسه إحساسا حلواً، كان توقظ في قلبه ذلك الشعور الراقد في أعماق كل رجل. ‏
و كثيراً ما حدثها عن الله، عن ربه و هو يمشي إلى جوارها في الحقول و نادراً ما أنصتت إليه. كانت تنظر ‏إلى السماء و إلي العشب و إلى الزهور و عيناها تلمعان بفرحة الحياة و كانت تجري أحياناً لتمسك بفراشة ‏ثم تعود بها و هي تصيح ” أنظر انظر يا خالي كم هي جميلة بودي أن اقبلها” و كانت هذه الرغبة من جانب ‏الفتاة في تقبيل الفراش و الزهور تزعج الأب و تضايقه و تثيره فقد رأي فيها دليلا على ذلك الحنان الدائم ‏الذي ينبض في قلب كل امرأة.‏
و في يوم من الأيام أخبرت مدبرة البيت الأب ” مارينيان ” أن ابنة أخته قد اتخذت لنفسها حبيباً.‏
و عانى الأب إحساسا مؤلما. وقف مختنقا و الصابون يغطي وجهه و هو يحلق و عندما استعاد القدرة على ‏الكلام صاح :‏
‏- كذب كذب .. أنت تكذبين يا ” مالينا”‏
و لكن المرأة القروية وضعت يدها على قلبها و قالت :‏
‏- ليعاقبني الله أن كنت أكذب يا سيدي القس أنها تذهب إليه كل ليلة بعد أن تنام أختك و هما يتقابلان بجانب ‏النهر، و ما عليك إلا أن تذهب إلى هناك ما بين الساعة العاشرة و منتصف الليل و ستراها بنفسك.‏
و توقف الأب عن حك ذقنه و بدأ يذرع الحجرة بسرعة كما يفعل عندما يستغرق في تفكير عميق. و عندما ‏حاول أن يكمل حلاقة ذقنه جرح نفسه ثلاث جروح امتدت من الأنف إلى الأذن.‏
و ظل طول اليوم ساكناً و قد امتلأ غضباً و ثورة فإلى جانب كرهه الطبيعي للحب شعر أن كرامته قد أهينت ‏كأب و معلم و كراعي نفوس، شعر أن طفلة قد خدعته و سخرت منه و سلبته شيئاً يملكه. شعر بهذا الحزن ‏الأناني الذي يشعر به الوالدان حين تخبرهم ابنتهما أنها اختارت لنفسها زوجاً دون مشورتهما و ضد ‏المشورة.‏
و بعد العشاء حاول أن يقرأ قليلاً و لكنه لم يستطع أن يكيف نفسه للقراءة و ازداد غضبا على غضب. و ‏عندما أعلنت الساعة العاشرة أخذ عصاه و هي عصا غليظة من خشب البلوط يحملها عادة حين يخرج ليلاً ‏لزيارة المرضى و ابتسم و هو يراقب العصا الغليظة و قد استقرت في قبضة يده القوية. و أدار العصا في ‏الهواء مهدداً ثم رفعها فجأة و هو يجز بأسنانه و انهال على كرسي فحطم ظهره.‏

و فتح باب بيته ليخرج و لكنه توقف عند بابه منبهراً . كان بهاء القمر رائعاً روعة نادرة، و استجابت روحه ‏السامية لما حوله و شعر فجأة أن جمال الليل الشاحب و جلاله و بهاؤه قد حرك قلبه. و في حديقته الصغيرة ‏التي سبحت في ضياء باهت عكست أشجار الفواكه ظلالها على ممر الحديقة، أغصان رقيقة من الخشب ‏تكسوها الخضرة و من الزهور المتسلقة على الحائط انبعثت رائحة لذيذة حلوه علقت كروح عطرة بالليل ‏الدافئ الصحو. ‏
و بدأ يتنفس تنفساً عميقاً و يحتسي الهواء كما يحتسي السكير الخمر و سار ببطء مسحوراً مبهوراً حتى كاد ‏ينسى ابنة أخته و عندما وصل إلى بقعة عالية وقف يراقب الوادي أجمعه و قد امتد تحت بصره و بهاء ‏القمر يحتضنه و سحر الليل الهادئ الحنون يغرقه و نقيق الضفادع يتردد في نغمات قصيرة و البلابل عن ‏بعد أشجاها القمر فتغنت و اختلط غناؤها في موسيقي لا تثير الفكر و إنما تثير الأحلام.‏

و استمر الأب يمشي و هو لا يعرف لم تخلت عنه شجاعته فقد شعر كما لو أن التعب و الإرهاق قد تسربا ‏إليه، وود لو يجلس أو يتوقف حيث هو ليحمد الله على ما صنعت يداه.‏
و تحت بصره و حول منحنى النهر امتد صفان طويلان من الأشجار و فوق شطي النهر سبحت سحابة خفيفة ‏بيضاء تخللتها أشعة القمر فأضفت عليها لون الفضة و بريقها.‏
و توقف الأب من جديد و قد نفذ إلى أعماقه شعور قوي متزايد و استولى عليه دون شك القلق و شعر أن ‏سؤالاً من الأسئلة التي تلح عليه أحياناً يدور في عقله.‏
لماذا فعل ذلك الله ! إذا كان الليل للنوم، للإغفاء ، للراحة، للعدم ، فلماذا كان أكثر سحراً من النهار، و أحلى ‏من الغروب و الشروق ؟ و هذا الكوكب المبطئ الخلاب الذي يغلب جماله على جمال الشمس، و الذي يضئ ‏الكائنات بنور رقيق يستعصي على الشمس… هذا الكوكب لم يشرق لينير الظلال ؟ و لم لا يأوي البلبل ‏الصداح إلى النوم كغيره من الطيور و لم هذا الحس الذي يتسلل إلى الروح و هذا الخمول الذي يغزو الجسد ‏؟؟ و لم هذا الوشاح الذي ينبسط على الأرض، و هذا السحر الذي لا ينعم به الإنسان إذ يأوي إلى فراشه ‏بالليل ؟؟ لمن خلق الله هذا الجلال، هذا الفيض من الشعر الذي يتدفق من السماء إلى الأرض؟ و لم يجد الأب ‏لهذه الأسئلة التي ثارت في نقسه جواباً.‏
و في طرف المرعى ظهر ظلان يمشيان جنباً إلى جنب تحت الأشجار المتعانقة الغارقة في الضباب الفضي.‏

و كان الرجل هو الأطول، و قد التفت ذراعه حول عنق حبيبته و من وقت لآخر كان يقبلها في جبينها. و ‏فجأة دبت الحياة في الطبيعة المهجورة التي أحاطت بهما و كأنها إطار الهي صنع خصيصاً من اجلهما و بدا ‏الشخصان وكأنهما كائن واحد. الكائن الذي خلق من اجله الليل الهادئ الساكن، و اقتربا من القس كإجابة ‏حية على سؤاله أجابه بعث بها إليه ربه الأعلى.‏
وقف الأب مصعوقاً و قلبه ينبض بشدة. و تمثل قصص الإنجيل كقصة حب راعوث ‏و بوعز و ‏إرادة الله تتحقق في القصص الجليلة التي وردت في الكتاب المقدس. و في رأس القس ترددت آيات نشيد ‏الإنشاد، الصرخات الوالهة و نداء الجسد و الشعر الجميل في هذه القصيدة التي تتأجج حناناً و حباً و قال ‏لنفسه “ربما خلق الله مثل هذه الليلة إطاراً لمثله الأعلى … لحب الإنسان”‏
و تراجع بعيداً عن الحبيبين اللذين تقدما يداً في يد كانت فعلا ابنة أخته . و كان الأب ” مارينيان” يتساءل ‏الآن … الم يكن على وشك الخروج على طاعة الله ؟ فلو لم يكن الله يرضى عن الحب لما أحاطه بمثل ذلك ‏الإطار من الجمال.‏
و هرب الأب مندهشاً و هو يكاد يشعر بالخجل، كما لو كان قد اجتاز هيكلاً مقدساً لا حق له في اجتيازه.‏

موباسان