-1-
تزوجت فتاة من شاب، واقيم احتفال كبير. العرس فرحان، والعروس متهللة، والنساء يزغردن، .. ومرت سنة فاذا بالزوجين يصبحان والدين، اذ وضعت الزوجة مولودا ذكرا، كان قرة عين لها ولزوجها وابتسمت الحياة لها.. ولكن هناءها لم يطل، فقد جاء يوم فقدت فيه زوجها واصبحت ارملة، فانفتح جرح في قلبها ، وبكت يومها ما شاء لها من البكاء،وكيف لا تبكي المرأة زوجها! وكان كل من يراها باكية تنفتح ميازيب عينيه فيبكي معها.. آه من الموت الذي لا يرأف باقدس روابط الحياة، فيأخذ المرأة من زوجها، ويأخذ الزوج من زوجته..
ولكن المرأة تعزت اذ كانت ترى زوجها في صورة ابنها ، وعاشت الارملة لتكون اما بعد ان كانت زوجة ايضا. كان العالم كله لها ذلك الابن الوحيد. ليس لها شئ اخر سواه. وكل ما كانت ترجوه في الحياه هو ان تراه، ويكون هو من يغمض عينيها عند الممات، وان يقف على قبرها، وان كان الموتى يحسون فستستريح عظامها في قبرها اذ وقف هو عليه.. وقد كنت تراها تبكي وتضحك وتصمت وتتكلم في وقت واحد تبعا لمرور الصور المختلفة لابنها في ذهنها – وربما تحدثت اليه طالبة ان يكفنها وان يذرف على قبرها دمعة واحدة فقط لئلا يضر عينيه بالبكاء.. وكان هو يجيب طلباتها بالقبلات، وربما انتهت احاديثهما بالدموع كما ربما انتهت بالضحكات.. كل هذا واكثر منه ربما تم حرفيا في بيت الارملة!
-2-
وفي احد الايام جاء الموت الى البيت ولكنه قدم الدعوة للابن لا للام. جاء في صورة مرض ففزعت الام وجالدت دموعها وجعلت ترقب ولدها وهي تؤمل انه سيقوم – يا للحب عند الام! ان له جانبين: من الجانب الاول يبدو قلقا خائفا مضطربا يتلفت بانزعاج الى ارتفاع الحرارة.. هو مريض.. هو متألم.. حالته ليست متقدمة.. اخشى … ومن الجانب الاخر كان حبها الكبير يستبعد الموت. لا يمكن ان يموت.. كلا. الله ليس قاسيا ليمزق قلبي مرتين. آه! لقد مزقه يوم اخذ زوجي ولقد كان جرحا هائلا مخيفا مرعبا وكان الليل المظلم يحدثني بمخاوف. لقد مزق قلبي مرة. الا يكفيه ذلك؟! ليمزق القلوب مرة واحدة. ليترك الارملة تنعم بابنها! .. كان حبها يقول .. كلا لا يمكن ان يموت.. اني افديه بحياتي. حياتي ملك ابني. اني اضعها من اجله بسرور. واشتد بها الحب فاذ هي ترى نفسها تحارب ملاك الموت. بل امتد الامر لترى نفسها تحارب ، او على الاصح تجاهد مع الله (في الصلاة) لاجل ابنها!
ورأى الله تلك النفس المتألمة ،ورأى قلبها الملتاع. رأى دموعها السخينة التي بللت سريرها بل التي انهمرت لتبلل الارض لانها جلست على الارض بجانب سرير ابنها..
رأى الله كل ذلك . ولكنه لم يشفق – حسب قول المرأة- لم يشفق بل مد سكينه الى قلبها ومزقه بقسوة عظيمة. لقد حزنت يوم موت زوجها ولكنها اليوم تسخر من ذلك الحزن. لانه ما هو جرح الامس بالنسبة لجرح اليوم- ومدت الارملة يديها المرتعشتين الى جسم الابن الحبيب واذ هو بلا حياة. لقد اختطف من بين يديها.. نعم مات. مات الابن الوحيد. مات ابن الارملة. لنجلس نحن الذين بلا حول ولنبك معها . لنبكي مع الارملة الثكلى. ما امرّ الموت!
-3-
خرجت الارملة وراء نعش ولدها لتضع كل ذلك الحب في التراب.. لا اعلم ان كانت عيناها قد ذرفتا دموعا،ولكني اعلم ان قلبها قد عصر عصرا. كانت الارملة تبكي بقلبها ولو ان عينيها جمدتا.. وخرجت المدينة كلها وراءها. كان كل قلب يعطف عليها. كانت دموع كثيرة تملأ الوجوه. تنهدات كثيرة سمعتها نايين ذلك اليوم.. وكانت الارملة تحس ذلك العطف من الجميع الا من شخص واحد. كان كل قلب معها الا قلب واحد.. وكانت هي مستعدة ان تستغني عن عطف الجميع وقلوب الجميع لو انه “هو” عطف عليها، ولو ان قلبها كان معها. نعم فقد شعرت الارملة ان الله اغلق بابه عليها وطردها. احست انه صد صلاتها ولم يرأف بدموعها ومن يعلم ما تلفظت به المرأة خطأ في حق الله..
لكن هل قسا الله حقا عليها؟! هل اغلق بابه؟ لقد ارسل الاب ابنه ليحضر الجنازة.. واذ ما حضر ابن الله جنازة استحالت تلك الجنازة فرحا.. وهذا هو ما حدث.. وصل يسوع الى باب نايين. ولما رأى المرأة تحنن عليها – وما هو التحنن؟ انه البكاء .. انه بكاء القلب.. ويمكننا باطمئنان ان نقول ان السيد بكى لما رأى تلك المرأة باكية.. لقد بكى الاخرون وبكى هو.. لكن شتان بين بكاء وبكاء. اما بكاؤهم ففيه كثير من الانانية. انهم يبكون فزعين لانهم يرون في تجارب الاخرين تجاربهم. واحيانا في بكاء البعض كثير من النفاق اذ يبكون لانهم يطلون –من عليائهم- على البائسين.. ويبكون دون ان تتأثر قلوبهم حقا للحزين.. دموعهم لا تجدي.. اما هو فانه يبكي من قلب محب منكر لذاته مشترك مع المتألمين.. ودموعه بلسم يشفي القلب الكسير!
قال المسيح للارملة: “لا تبكي”، وهي الكلمة التي لا يزال يقولها لكل حزنه فاذ بحزنه يتلاشى!
-4-
لو ان القصة انتهت عند هذا الحد لكفى. لا شك ان التعزية ملأت قلب الارملة. لقد كانت ترى الحياة في تلك الاام التي تقضيها على الارض. ولكن تلك الدموع التي ملأت وجه المسيح. وتل الكلمات التي نطقتها شفتاه لها معنى جديد من معاني الحياة رأته بعين ايمانها. رأت الحب الخالد الذي لا يموت ولو مات الجسد.. فتعزت الارملة..! ولك المسيح اضاف على بركة حبه بركة اخرى. تقدم الى النعش ولمسه، فوقف الحاملون. فقال: ايها الشاب لك اقول قم. فجلس الميت وابتدأ يتكلم فدفعه الى امه (لو7: 13) ولكم ان تتصوروا كيف استحال الحزن الى فرح عظيم..