
كان بشوشاً وكان لطيفاً معطاءا، نذكره جيداً حين كنا أطفالاً دون العاشرة بينما تخطى هو الثلاثين من العمر، إنه (عمو يوسف) كما كنا نطلق عليه في تلك القرية النائية في وسط صعيد مصر .
كنا نحبه .. وكان يعطف علينا إمّا بقليل من الحلوى أو تلك القطع النقدية الصغيرة التي كان يحتفظ بها في جيبه، وكنّا نحن نشاكسه ايضاً وهو جالس في وداعة أمام حجرة القربان عقب القداس ، عندما كنّا نسأله أسئلة بريئة كان يبتسم ويلاطفنا ، والأن أتذكّر أنه في كل مرّة كان يشرد قليلاً بذهنه قبل أن يصرفنا عنه بلطف .
وكان أبي ناظراً للكنيسة ، وهي كنيسة أثرية على اسم السيدة العذراء. وبين آن وآخر، وحين كنا نجلس إليه بعد العشاء كان يروي لنا شيئاً عن ذلك القرابني الجديد الذي جاء يعمل كخادم في الكنيسة ، كيف أنه رفض أن يتقاضى أجراً .. وكيف إكتفى بالطعام الذي يقدّم له ، وبتلك الحصيرة المتهرّئة لينام عليها بجوار (بيت لحم).
وإعتاد أن يدخل إلى حجرته عقب السابعة مساءا ولا يُرى إلّا عند الصباح بعد أن يكون قد قام في نصف الليل ليخبز القربان ، ويُدخل (طبق الحمل) في مكانه أمام الهيكل ثم يرتب المذبح ويعمر القارورة ويصلح الشمعدانين اللذين فوق المذبح ويملأ إبريق الماء الفخاري ودرج البخور وكل ما يحتاجه الكاهن ، وهو ماهر جداً في جعل الكنيسة وما يحيط بها ، في غاية الحسن والبهاء ، فقد غرس بعض الورود والشجيرات حول الكنيسة .. وكنا نلعب كثيراً بجواره، وكنا نهابه بقدر ما كنا نحبه..
كانت فى عينية نظرة شفقة وحب وسر عميق ، وكان من بيننا ونحن أطفال جورج وهو ابن كاهن الكنيسة ، وكان (عم يوسف) يخصّ جورج باهتمام أكبر إذا كان مكلّفا برعايتة، مثل مرافقتة إلى المدرسة ، والعودة به عند الظهر إلى بيته ثانية، وكنا نراه فى بعض الأحيان يجلس إلى جوارة أمام حجرته فى الكنيسة، يراجع معة بعض دروسه ، وكان يوسف يعرف القراءة والكتابة ، وكنا نلمحه فى بعض الأحيان يقرأ على شمعة وباب حجرته مفتوحاً.
وأذكر أن بعض الصبية ضايقوه ذات صباح ، إذا راحوا يهتفون فى سذاجة بما يضايقه ويهينه،وقد رأيتة فى ذلك الصباح وهو يشخص إليهم بعينين منكسرتين ثم يتراجع بهدوء إلى الخلف حتى يدخل حجرته ويسحب بابها وراءه فى هدوء، وما أن أغلق الباب حتى قذف أحدهم الباب بحجر كبير ، ثم هرول الجميع ضاحكين ، وفى المساء وجدته بشوشاً كعادته، وقد زالت من قسمات وجهه عبوسة ذلك الصباح .
وعندما تجاوز سنّه الخامسة والثلاثين، أشفق الكاهن على وحدة يوسف ومسكنته، فعرض عليه تزويجه من إحدى العاملات بمصنع النسيج، ولكن يوسف أعتذر فى أدب جّم ، بأنة لا يفكر فى الزواج ، ظن الكاهن وقتها أن المانع هو ضيق ذات اليد ، فطمأنه بأنه سيتكفّل بنفقات هذا الزواج ، ولكنه أعتذر مراراً.
قال إن أهله فى إحدى محافظات الوجه البحرى، حاولوا مراراً تزويجه من قبل ، ولكنه أحبّ أن يحيا وحيداً ، وقال الكاهن :
– فلماذا لم تترهب فى أحد الأديرة ؟
– أنا لا أستحق … إنى شرير ..
وتأثر الكاهن، ومنذ ذلك الحين حاول توفير حجرة صحيّة له، يؤثثها له، ولكنه أعتذر أيضاً مكتفياً بتلك الحجرة البسيطة التى تشبة الكوخ ، واكتفى أيضاً بالقروش القليلة التى تعود عليه من الأطباق الخوص التى يصنعها فى أوقات فراغه.
و أحبه أهالى القرية ، واعتبروه بركة ، وكانوا يراقبونه فى ارتياح ، وهم يسير بين آن وآخر يحمل شيئاً إلى بيت الكاهن ، أو وهو يرافق جورج ابن الأب الكاهن إلى مدرسته ، أو إلى خاله فى الحى الغربى من القرية ، كان طويل القامة، نحيفاً، هادئاً، وثابتا فى خطواته .. رأسه مطرق إلى أسفل قليلاً ، ينتعل فى قدمه نعلاً بسيطاً… ويعتمر طاقية بنيّة اللون وكانت له لحية خفيفة جداّ.
وفى ذات مرة فوجىء يوسف عند منتصف الليل، بأن القربان لم يختمر .. فلم تكن الخميرة نشطة بالقدر الكافى ، فإن خبزه على ذلك النحو، فسيخرج من الفرن وهو أشبه ما يكون بالفطائر لا القربان ، ولم يكن الوقت يتّسع لعمل قربان آخر، وتحيرّ فى نفسه وتضايق و أوشك أن يضطرب ويفقد سلامه ، وفى النهاية لم يكن من مفرً من وضعه فى الفرن كما هو .. وخرج القربان بشكل سيىء .. وباكراً جاء الأب الكاهن ومعه الشماّس ، فتلقاه يوسف بالترحيب ، وتردّد قليلاً قبل أن يعتذر له بأن القربان اليوم ليس على ما يرام.
وتغيرت ملامح الكاهن وزمجر وراح يعاتبه على إهماله بكلمات قاسية ولكزه بيده غاضباً، وراح يوسف يعتذر بعبارات كثيرة ويطلب الحل والصفح فتركه الكاهن مستاءاً، والحقيقة أنها لم تكن عادة الكاهن فى مثل تلك المواقف ولكن مزاجه لم يكن على ما يرام فى ذلك الصباح .
وطفرت الدموع من عينيه ولكنه تماسك وعالجها بسرعة ، انتهى القداس وخرج الكاهن من الكنيسة فتلقاه يوسف ببشاشة ، ولكن الكاهن لم يعتذر له، ولكنه تظاهر فقط بأنه قد نسى الأمر والتفت إلى أعماله ، وإذا تحدث مع يوسف فى شأن آخر .
وكبر جورج (ابن الكاهن) شيئاً فشيئاً، وألحقه أبوه بالكلية الإكليريكية أملاً فى أن يساعده مستقبلاً فى أعباء الكهنوت والخدمة ، وكان شاباً مشهوداً له بالفطنة والذكاء وإتضاع القلب والكل يحبونه أيضاً، وكثيراً ما كان يوسف ينتظره على محطة القطار عند زاياراته للقرية ليحمل عنه حقيبته وليصحبه إلى منزله ، وكان جورج يحمل ليوسف – كلما جاء إلى القرية – هدية لطيفة من البندر، مرة شالاً و أخرى طاقية أو علبة من الحلوى .
وتقدم الكاهن فى السن وشاخ واحتاج إلى أن يطلب من الأسقف أن يرسم له أبنه كاهناً معه – وكان قد تخرج منذ ثلاث سنوات – وفى إحدى الليالى المبهجة حضر الأب الأسقف ليبيت ليلته فى القرية وبصحبته بعض الكهنة والأراخنة ، ليقيم فى الصباح ذلك الشاب الفاضل كاهناً ، وسعدت البلدة بذلك. ومن ثّم بدأ يشترك مع أبيه فى حمل أثقال الخدمة ، وبدأ فى حملة افتقادات واسعة محاولاً أن ينهض بالكنيسة وأنشطتها.
واستمرّ يوسف فى عمله المعتاد، من صنع القربان إلى تنظيف الكنيسة وملحقاتها من مرافق مختلفة ، مع قضاء بعض أمور الكنيسة مماً يكلّفه به الأب الكاهن، ويقول الذين تردّدوا على كنائس أخرى أنهم لم يروا ، أفضل و أروع من القربان الذى يصنعة يوسف ، كان دقيقاً فى عمله، مهتماً بالعودة إلى حجرته بعد انتهاء أعماله ، ولم يزر إنساناً فى بيته ، حتى بيت الكاهن لم يدخله مطلقاً وإنما يقف على الباب يسلّم شيئاً أو ليأخذ شيئاً ، وبالتالى لم يزره أحد فى حجرته ولم تكن له دالة مع أحد.
وأمّا أكثر الناس تعقلاً، فقد رأى فيه إنساناً يؤثر العزلة والهدوء، بينما اعتبره الآخرون شخصاً يعانى من الانطواء ، فى حين حسده البعض وكرهه البعض الآخر واشتكى عليه بعض الأشرار فى القرية .
ويحكى والدى فى تأثر بالغ وحزن شديد ، كيف حاول هو نفسه ذات مرة أن يطرد يوسف من مكانه بسبب بعض التوسعّات التى كان يرغب إجرائها فى الكنيسة ، فحمل يوسف عدة كتب كانت له مع بعض حوائجه ووقف بجوار الحجرة من الخارج مسكيناً لا يدرى ماذا يصنع ، ولكن بعض المحبين توسلوا إلى الكاهن الذى قرر تأجيل تلك التعديلات إلى حيت آخر ومن ثم فقد أعاده إلى موضعه ، ولفترة كان يوسف كلما رأى والدى، ينظر إليه فى مرارة !
عندما مرض الأب الكاهن الكبير ، لزم منزله لا يخرج إلا نادراً ، واعتلت صحته وفيما أوصى أبنه ، أوصاه بيوسف ذلك القرابنى الطيب الذى رافقهما فى رحلة طويلة وأصبح مسئولا منهما بعد مرور عشرين عاما منذ وصوله إلى القرية .
وتنيح الكاهن العجوز..
واهتم الكاهن الصغير بشئون كنيسته الصغيرة ، وحاول الاهتمام أكثر بيوسف ، فكرر محاولة والده تزويجه ، فكرر بدوره الرفض مع إبداء شعوره بالامتنان ، وقام بعمل تعديلات كثيرة على مرافق الكنيسة ، وبالتالى فعرض عليه أن ينتقل إلى المبنى الملحق بالكنيسة ، فاعتذر أيضاً بلطف وحياء ، متمسكا بذلك المكان الذى بدأ فيه منذ خمسة وعشرين عاماً.
وتقدمت به الأيام وناهز الستين من العمر ، وما يزال مسئولا عن صنع القربان وإسراج القناديل فى الكنيسة وتنظيفها وترتيبها ، وكذلك الحديقة التى أصبحت بقعة جميلة تزينها الورود المتعددة الألوان وأصص الزرع المنسقة بيد فنان مرهف الحس ، مع قضاء بعض احتياجات الكنيسة وحتياجات الكاهن .
ولكنه لم يخرج من البلدة طوال تلك المدة .. حتى عندما ألّم به ألم فى كليتيه ونصحه البعض ممن يؤمّون عيادات الأطباء فى المدن بالذهاب إلى الطبيب . واكتفى بتناول بعض المشروبات المفيدة للكلى وتخطى آلامها..
ويروى لنا معلم الكنيسة ، أنه كثيراً ما كان يسمع يوسف يردد بعض الألحان الطويلة ، فيسأله متعجباً ولكن يوسف كان يرد مستخفا بنفسه ، وبأنه كان يحفظ الكثير منها لا سيما وهو حديث السن و لكنه أصبح وقد نسى أغلبها.
وفى ذات مساء فوجىء الأب الكاهن بطرق على الباب . ولما فتح الباب فوجىء بيوسف يقف فى حياء على بعد من الباب ، غير أنه كان فى صورة بهية ، لم يره عليها مطلقا من قبل خلال ثلاثين سنة مرت عليه معه ،فقد كانت ثيابه نظيفة ..و وجهه يلمع وقد دس قدميه فى حذاء جديد..
و دهش الكاهن , فهى المرة الأولى التى يأتى فيها إلى بيته دون أن يطلبه, فدعاه الى الدخول, فتردد قليلاً قبل أن يدخل فى حياء شديد , إذ كانت هذه هى المرة الأولى أيضا التى يدخل فيها داخل البيت, و جلس فى وقار أمام الكاهن الذى دعاه للجلوس .. و بعد فترة من الصمت تخللتها بضع كلمات متفرقة و تقليدية قال يوسف:
– جئت إليك الليلة فى أمر هام.
– خيرا…
– نعم, فأنت تعرف كم لى من السنين هنا و أنا معكم .
– بالطبع فأنت معنا منذ ما يزيد عن الثلاثين او الأربعين عاما.
– كيف كنت أخدم الكل بفرح و أتمم عملى بقدر ما استطيعه من أمانة محاولاً ألا أقصر فى شىء.
– نعم..و لكن ما هو الأمر ..ماذا تقصد…
– إننى أشعر بقرب رحيلى.
فقال الكاهن مداعبا:
– أنت ما تزال شبابا.. أطال الله فى حياتك ..أنت بركة لنا يا عم يوسف..
– عفواً ..بل إنى خاطىء و مسكين,ولكن لى طلب عندك أرجو ألا تردنى عنه أو تتعجب له.
– إذا كان فى استطاعتى فلن أتردد فى تحقيقه لك.
– أود أن تسمح لى بأن أصلى القداس غداً.
و تخيل الكاهن أن يوسف يود التقدم للتناول, و لهذا يطلب إعفاءه من بعض الالتزامات , أو ربما يحتاج إلى “حلّ” , فقال له:
-طبعا و بكل سرور , يمكنك التناول غداً- محالل مبارك!
– كلا يا أبى..بل أريد أن أخدم القداس..أرفع أنا الذبيحة..
و دهش الكاهن .. وصدمته المفاجأة و ظن لأول وهلة ان الرخل قد أصابه مس من الجنون, و تمعّن فيه طويلاً,و سرح بفكره , و تذكّر بعض المواقف التى شعر فيها بغموض الرجل الجالس الآن أمامه, و بأنّ سرُّ ما يكتنف حياته, فقال:
– ماذا تقصد؟!
– أعنى ما قلت, ثم بلهجة فيها من الجديّة أكثر ممّا فيها من التوسُل:
أريد أن أكون الكاهن غداً..إنى راحل.. و لهذا أودّ أن أودّع المذبح.
و ازدادت دهشة الكاهن و همّ بأن يعيد الرجل إلى صوابه، فأنتهره بلطف, غير أن الرجل استطرد فقال:
– نعم يا أبى ..أنه السرّ الكبير الذى كنت أحتفظ به طيلة هذه السنين و أنا بينكم, و لم أبح به لوالدك.. و لم أكن أنوى الافصاح عنه لأحد , لولا أن الوقت قد حان.
و هنا شعر الكاهن بالخوف , فكلمات الرجل تنذر بمفاجأة خطيرة, و بدأ يظهر عليه القلق، فقال مضطربا:
– و ما هو السر؟
– نعم يا أبى , فأنا راهب قس و قمص.
و عقدت الدهشة لسان الكاهن, و قفز من جلسته , ووقف مشدوهاً لا يصدق و تفرس طويلا فى الرجل الذى أعاد ما قال, فى هدوء و ثقة و ثبات : كلمة كلمة…
و هنا تهاوى الكاهن فى مقعده و هو يتصبب عرقا, و طلب إليه بتوسل أن يقص عليه قصته, و ما الذى دفعه إلى هذا السلوك الغريب, و أردف طلبه بوابل من الاعتذارات عن كل ما صدر عنه مما ضايق الرجل.. فلم يخل الأمر طوال تلك السنين, من انتهار بين آن و آخر.. إلى تجاهل غير مقصود .. فان أفضل معاملة تلقاها يوسف ,هو معاملة غير قاسية لعامل طيب مخلص.
-2-

قال الرجل:
منذ ثلاثين عاما ,كنت قد ألتحقت بدير(…..) و كان لى هناك قلاية لطيفة عشت فيها ثمانى سنوات, فقد دخلت إلى هناك و سنى لا يتجاوز الرابعة و العشرين, و عشت فى سعادة غامرة, كان معى فى الدير ثلاثة من الرهبان كانوا من مدينتى و كنت أتعزى بهم .. و كان عملى بالدير هو تصنيع الطوب الرملى و الذى كان له عندنا فى الدير , ماكينة بدائية الصنع, و كنا نستخدم الطوب فى بناء بعض القلالى و المرافق, ثم اتضح إن المبانى المقامة بمثل ذلك الطوب,غير صحيحة مطلقا, فقررنا فى الدير قطع الحجارة من الجبل لاستخدامها بدلا من الطوب.
صمت الرجل قليلا ..فراح الكاهن يحثه على مواصلة الحديث.
– كان المحجر الذى سنقطع منه الحجارة يبعد عن الدير مسافة كيلو مترين, و لم تكن إمكانيات الدير تسمح باستئجار قاطعى الأحجار, فكنت أبدأ عملى فى التاسعة صباحا لأقوم بعمل حفرة فى الأرض الحجرية على بعد متر واحد من الحافة, و من ثم أضع فى الحفرة وتدا خشبيا ضخما و نقوم بالضغط عليه قبل أن نشبعه بالماء و نتركه ليوم كامل , و حينئذ يزداد حجم الوتد فيضغط على الحجر فيحدث به شرخا طويلا فنقوم بتقطيع هذه الشريحة إلى قطع مناسبة و بعد ذلك نضعها فوق العربة الكارو.
و العربة لها قصة طريفة..
و هنا دخلت زوجة الكاهن و هى ترتجف من الخوف و فى يدها صينية الشاى و بعض الحلوى , فقد سمعت الحديث بكامله , و أشار إليها الكاهن لتجلس فجلست تستمع و ما تزال آثار دموعها على خديها..
ثم أردف الرجل..
نعم .. قلت لك أن الدير لم يكن به عمال, و كانت العربة الكارو ذو العجلتين يجرها حمار, و كنا قد مهدنا الطريق من المحجر حتى باب الدير , فبعدما أضع الحجارة فوق العربة , أوجه الحمار ناحية الدير, فيجر العربة إلى هناك حيث ينتظرها أب آخر يفرغ حمولتها ثم يفعل الشىء ذاته إذ يوجه الحمار ناحية المحجر و هكذا… و كنا نحب الحمار و نشفق عليه و نلاطفه كثيراً و نطعمه بقدر ما نستطيع , ولم نكن نعتبره مجرد حيوان أعجم بسبب أنه صار يفهمنا جيدا و نفهمه كذلك.
و كنت أعمل حتى الرابعة بعد الظهر فيما عدا يوم الأحد من كل أسبوع.
– من كان يبنى لكم إذن؟
– كان من بيننا اثنين من الرهبان ملمان بحرفة البناء, كلما رأيانى يلوماننى برفق و دعابة.
– حجارتك ليست مستوية.
فأرد معتذرا:
و كنت فى يوم الأحد من كل أسبوع , أخرج إلى البرية , و معى عصا طويلة تعيننى فى السير فوق الرمال.. و استمر فى السير حول الدير لساعتين أو ثلاثة..
و فى السنتين الأخيرتين لى هناك,كنت قد تشجعت فى أن أسير بعيدا عن الدير مدة أطول, و فى ذات يوم استأذنت أبى رئيس الدير فى أن أتغيب يوم الأثنين عن العمل وولفق لعلمه أن ذلك إنما من أجل رغبتى فى الهدوء و الخلوة , و طلب إلىّ أن أصلى عنه, و لكن أين ذهبت فى هذين اليومين؟ لقد سرت من صباح الأحد بعد القداس الإلهى , و بعدت عن الدير حوالى أربعين كيلو مترا, و عندما مالت الشمس للمغيب, و أضطررت للمبيت فى الصحراء, نمت فى ظل صخرة كبيرة بعد أن رشمت ذاتى بعلامة الصليب و رسمت دائرة حولى.
وصمت الرجل وشرد طويلا قبل ان ينتبه على صوت الكاهن وزوجته يحثانه على المواصلة … و كان الكاهن عندئذ يتخيل الرجل فى ملابسه الرهبانية !!
اردف الرجل قائلاً :
بكرت فى الصباح لاواصل سيرى ، و تلذذت بذلك ، واحسست بالغربة عن الجير واخوتى تجذبنى نحو الله و تهبنى الهدوء الذى انشده و تجعل ذلك الخط الذى يربطنى بالله سليماً غير منقطع ، فلم اعد الى الدير !! سرت هائماً على وجهى لمدة شهرين من الزمان ومن ثم و بعد صلاة طويلة ، قررت الا اعود ثانية للدير !!
– فأين ذهبت ؟ ( قال الكاهن بينما زوجته الطيبة تجلس الى جانبه خائفة )
– نزلت بكوخ احد الاعزاب الذى احتفى بى وترك لى كوخه ليسكن هو فى كوخ اخر بالقرب منه ، و عملت معه فى رعى الاغنام لمدة شهرين ، ارسلت خلالها الى ابى الروحى عن طريق البريد استأذنه فى ان اكمل حياتى على هذا النحو ، او على نحو مشابه ، وقلت له ان يرسل لى رده بأسمى العلمانى (يوسف) واعطاني الاعرابى عنواناً لاقاربه فى المدينة ، طلبت من ابى ان يرسل لى عليه و هنا قاطعه الكاهن
– ماذا كان اسمك فى الدير ؟
– توماس … كان اسمى القمص توماس.
– اكمل من فضلك …
– وصلنى خطاب ابى الروحى وكان مكتوباً فيه عبارة واحدة : (تشدد و تشجع و الرب معك) وكاد قلبى يطير من الفرح و احسست بلذة الحرية ، و اتساع الافق امامى وكأن ابواب غنى مجد الله قد انغتحت و لم يعد هناك من مانع لكى أخذ و أعترف .
واشتهيت ان اتناول من الاسرار المقدسة ، و سألت ذلك الاعرابى عن اقرب كنيسة فأشار إلى كنيسة هذه البلدة ، حيث تبلغ المسافة من الكوخ اليها حوالى خمسة عشر كيلو متراً ، فجئت الى هذه القرية وبالطبع فقد كانت ملابسى عادية و قد لبست طاقية مثل التى البسها الآن فلم يكن هناك فارق بينى و بين اى رجل اخر سوى هذه اللحية وهى صغيرة جداً كما ترون .
وفى يوم من الايام التى جئت فيها لاتناول تأخر القداس فى البداية طويلاً ، وعرفت – بطريقة عابرة – ان السبب فى ذلك يرجع الى تأخر عمل القربان ، فقد ترك القيم البلدة غاضباً و ليس من يحل محله و بنفس كفاءته .
وهنا هز الكاهن رأسه وتمتم ببعض كلمات مؤمناً بكلام الرجل .
و توجهت لفورى إلى والدك نيح الله نفسه ، وعرضت عليه القيام بتلك المهمة ، و سألنى هل تعرف فقلت له نعم فقد كنت اصنعه فى قريتى ، و يمكنك ان تجربنى و تختبر صدق قولى غداً فوافق لا سيما وأنه لم يكن هناك من بديل و قتها ، ففرح حينئذ ووافق ، و قمت بصنع القربان ليومين متتاليين ، سر به الاب أيما سرور ، وطلب الى ان احيا معهم وأعطانى هذه الحجرة بعينها ، ومن ساعتها عشت على هذا النحو ولم اكشف سرى لاى شخص حتى هذا اليوم …
الموكب
ما ان انتهى الرجل من كلامه ، حتى وقف الكاهن و صافحه كما يتصافح الكهنة ،
طلب الحل منه ثم دخل إلى الداخل ليعود سريعاً وهو يحمل ثياباً كهنوتية ليسلمها للرجل و لكن الرجل قال انه يحتفظ بملابسه الكهنوتية و الرهبانية …إنها ماتزال معه فى صندوق يضعه فى حجرته ، فقال الكاهن .
– انزل الآن يا أبى إلى حجرتك ودعنى أنا الليلة اصنع لك القربان ، اسمح لى مرة واحدة نتبادل الادوار .
– أبداً إن هذا لن يكون مطلقاً ..فإنى اتمم عملى حتى النهاية …
– إذن قل لى انك حاللتنى يا أبى توماس و سامحتنى .
– من اجل ماذا ؟
– فلربما قد أسأت إليك عفواً او عمداً .
– لم يحدث شىء من هذا ، فقد كنتم لطفاء معى ، وإن كنتم قد أسأتم إالى عفواً فلا يحسب عليكم ، وإن عمداً فلكم العذر لانكم لم تعرفوننى ، كما إنى أنا الذى اخترت هذا المسلك .
وهذا قال الكاهن كمن يصدر أمراً و يقر قراراً :
– تصلى قدسك غداً ، و سأقوم أنا بالترتيب اللازم ..والآن تفضل إلى حجرتك ما دمت مصراً على صنع القربان حتى فى هذه الليلة النادرة و الحاسمة .
+++
كانت الساعة عند ذلك قد تجاوزت السادسة مساءاً حين خرج الكاهن يطوف بيوت تلك القرية وهو يلهث و تتلاحق أنفاسه ..تعالوا .. انظروا تلك الاعجوبة ..
يا من هنا ويا من هناك .. اسمعوا و تعجبوا و تحيروا كما يحلو لكم ، كيف أن صانع القربان هو راهب كاهن .
يوسف راهب .. يوسف كاهن ..هيا يا من ازديتم به و يامن اهنتموه ، هيا نالوا الصفح منه .. وإلتمسوا صلاته .
و تقاطر الناس على الكاهن ، يتسألون فى دهشة بالغة .. و الكاهن يروى القصة .. ويعود فيرويها بتفاصيل اكثر ، و وصرخت بعض النسوة و بكت أخريات ، كان مشهداً مؤثراً ..و عرف الجميع انه سيصلى قداس الغد لم تنم القرية فى تلك الليلة ، فقد راح الرجال يستعيدون كل ما كان قد دار بينهم و بين يوسف ففرح كل من كان قد احسن إليه و احبه ولاطفه ، بينما ندم كل من أساء اليه أو حتى احتقره فيما بينه و بين نفسه ، كذلك فقد راح الرجال يسترجعون كلماته و تعليقاته ..
أسرع بعضهم إلى الكنيسة فى تلك الليلة ليروا يوسف و لكنه كان قد انتهى من صنع القربان و أغلق حجرته و لو يفتحها و لم يستجب للطرق على الباب ، فقد كان يعرف أنهم إنما سيحضرون ليستطلعوا الآمر منه ، و يمطرونه بوابل من الآسئلة حول قصته .
و اجتمع كثير من النساء ، كل جماعة منهن فى منزل إحداهن ، يتسامرن و يتهامسن و يروون قصصاً كثيراً من نسج خيالهن عن يوسف و عما سوف يحدث فى الغد ..إلخ .
فى الصباح الباكر قام الاب توماس بخبز القربان وادخله الى الكنيسة قبل وصوصل مرتل الكنيسة (المعلم) وطلائع الشعب ، وكان مرتدياً الملابس السوداء ، وعلى رأسه طاقية سوداء تحتها الشريط الذى كان يلبسه الرهبان حتى الستينات ، وهكذا بدا فى هيئة مختلفة .
و حضر المعلم .. و بدأ فى ترديد بعض مقاطع من نهاية التسبحة اليومية و بعد ذلك جلس فى ركن ( الدكة ) يتمتم بعض صلوات …ثم قال – عل أحد الموجودين يرد عليه – ألم يحضر الآب بعد .
ورد صوت من داخل الهيكل ، سنبدأ الان يا معلم ، فتعجب المعلم لان الصوت القادم ليس صوت الكاهن الذى يعرفه ، وإنما هو صوت غريب ، وتخيل لاول وهلة ، انه واحد من الاباء الكهنة الذين يدعوهم للصلاة بدلاً منه حين يضطر هو للسفر ..او بسبب مرض يلم به ، غير ان الصوت لم يكن غريباً تماماً ..فأطرق بسمعه – ثم قال:
– من ؟!! من قدسك ؟!
– أنا يا معلم .
فهتف المعلم :
– يوسف ..عمو يوسف ..أهلاً .. وأجاب يوسف :
– لا يا معلم بل أنا الكاهن الذى سيصلى ، فصمت المعلم قليلاً ثم قال :
– ماذا تقصد .. ماذا تعنى ؟!
– أعنى ما قلت ..هيا لنبدأ!

وهمّ المعلم أن يصرخ محتجاً ، وهنا دخل الكاهن وأخذ المعلم بلطف من يده و همس فى أذنه : إصمت .. إنه راهب .. إنه كاهن .. فصرخ المعلم بصوت مكتوم و بطريقته اللطيفة:
وىّ!
(كان المعلم قد نام فى بيته مبكراً و كان يحيا فى منزله وحيداً بعد وفاة زوجته و سفر إبنيه إلى المدينة ، وبالتالى فلم يعرق ما حدث بالامس). وخرج على الفور ، وراح يتمتم ببعض كلمات ليعود بعدها ، فيجد الأب توماس قد بدأ فى رفع بخور باكر . كان صوته جميلاً رخيماً معزياً ملائكياً، وقد صلى النصف الأول من القداس للقديس غريغوريوس أما النصف الثانى فقد صلاه للقديس باسيليوس ( نصفه غريغورى والآخر باسيلى) ورتل الشمامسة خلفه الأسبسمس الآدام والواطس، وبعد إنتهاء القداس تقدم جميع الشعب للتناول وكانوا حوالى ثلاثمائة فرد، وهو العدد الذى نادراً ما يلتئم فى القداس الإلهى، فى تلك القرية الصغيرة.

+++
وبعد القداس :
وقف فى وقار وريث وأناة يوزع لقمة البركة (الألوجية) وتقاطر الناس عليه يطلبون صلواته ويستفسرون منه، والبعض يطلب السماح والحل لما قد يكون ضايقه منهم و راحت الأمهات يرفعون أصواتهن يطلبن البركة و البعض رفعن أطفالهن وقدمنهم إليه ليباركهم فكان يرشم جباههم بإشارة الصليب، أمطروه بأسئلة كثيرة جداً، غير أنه لم يجب، ولم يفتح فاه بل كان ينظر إلى الجميع فى شفقة وحب.
وفى بعض أركان الكنيسة وقف البعض ينظر إليه باكياً، فلما أنتهى هو من توزيع البركة، وكان كاهن الكنيسة برفقته دخل معه إلى الهيكل ثم جذب الأب توماس ستر الهيكل ليفصل بين الكنيسة والهيكل ، وبعد قليل حرج برفقة الكاهن، واستأذن الناس الذين كانوا مايزلون فى الكنيسة، فى أن يمضى إلى حجرته ليسترح قليلاً، وبعد ساعتين تنيح فى حجرته .
+ + +
واليوم لا يتذكر أهل البلدة أين دفن هذا الأب و أين قبره، البعض يقول أن جسده لايزال تحت أرض تلك الحجرة التى كان يعيش فيها، والبعض الآخر يقولون : لا، بل دفن قى الكنيسة مع بقية أجساد الآباء الكهنة الذين دفنوا هناك. هذه الواقعة حقيقية جرت أحداثها فى النصف الأول من هذا القرن.
قيّم هذا المحتوى من فضلك: