يوميات وحيد – 12

d981d8aad8a7d8a9

اغرق وحيد رأسه في يده للحظات ثم تنهد بعمق وهو يقول:

“اتعلم؟ كانت حياتي الاولى عقب الزواج اتونا مستعرا من الغيرة القاتلة، فانا اعرف ان زوجتى جميلة، واعرف فوق ذلك ان كل شخص يود ان يحظى منها بابتسامة، وفي نفس الوقت ارى ان من حقي ان تكون ابتسامتها وفقا على وحدي دون سواي، والا فانا مهضوم الحق، معتدى علي، ينازعني الغير في ملكيتي لها. وزوجتي شأنها شأن كل امرأة عرضة للظهور في المجتمعات، وعرضة لأن تحيي هذا، وتبتسم لذاك، ردا على ابتسامة او كلمة ظريفة يلقيها اليها احد، فلا احدثك كيف كانت ابتسامتها هذه تنزل على قلبي كالصواعق او كالنبال فتدميه وتوجعه، وباتت الحياة سلسلة الام يقض لها مضجعي وتؤلمني. وكم من معارك نشبت بيني وبين زوجتي نتيجة لهذه الغيرة العمياء القاتلة.

قال محب وهو يربت على كتفه:

– ما اتعس حظك؟ ولكنك مع ذلك مسئول عما انت فيه؟

– لماذا؟

– انني اعرف الخيل الجامحة من اصواتها، والمحبين من عيونهم. كل الناس مستقبلهم امامهم، وانت مصر ان تجعل مستقبلك وراءك! انس الامر او حاول ان تتواءم معه!

– ل استطع.. انا لست اريد ان اتحدث عن نفسي كثيرا، ان احوالي جد سيئة، كما اني لست اريد ان اشرح لك كل شئ

عاد محب يربت على كتفه، وهو يقول:

– ولكنك في حاجة الى من يسمع لك ، والى من يسدي لك النصح:

عاد وحيد الى الكلام بصوت متهدج وهو يحس بعضلات وجهه جميعها ترتعش:

– غاية ما كنت ابتغيه السعادة! .. ولكن كيف الوصول الى ذلك مع كل ما ذكرته لك؟! ان اهمال زوجتي اياي والتفاتها المطلق الى المحافظة على جمالها فاق كل ما يتخيله رجل. في الصباح تمرينات رياضية، وبعد الظهر لا يمكنها الخروج حتى لا تؤثر فيها اشعة الشمس، وفي المساء لا تسهر الا بقيود خاصة وتحت شروط طبية معلومة. ناهيك عن تدليك جلد الوجه بمواد ومساحيق خاصة لتطريته، وضرورة نومها على الظهر ممدة جسدها فراش غير وثير خال من الوسائد وفي درجة حرارة معلومة بوضع خاص، شريطة ان يكون اتجاه الجسم من الشرق الى الغرب لمدة طويلة، وما الى ذلك من احتياطات شتى. جعلني ذلك اترك المنزل هاجرا اياها على الدوام بين مساحيقها وادوات تجميلها.

-وهل هذا عالج الامر بينكما؟

-لا، لم يكن يروقها ذلك مني، بل عمدت الى الشك واخذت الغيرة تدب في عروقها، فتصور لها انني اصبحت مدلها في حب غيرها. فاصبحت حياتنا الزوجية سلسلة متاعب ومشاكل واستحكم الخلاف بيننا، وصرت اتفادى الوجود في المنزل . وانا كلما امعنت في ذلك زادت شكوكها وهجست خواطرها بهواجس السوء وازدادت القطيعة والجفاء بيننا، حتى اصبحت اشعر بأن الحياة لم تعد تطاق، وتراكمت علي الهموم والمتاعب، واشتد تفكيري وانشب فيّ المرض مخالبه، فلم يتركني الا بعد ان هدّ قواي، فلا تعجب اذا رأيتني على ما انا عليه الان. فتلك جناية الجمال علينا. فهل يتدبر هؤلاء الذين يحسبون الجمال نعمة! ويعرفون انه لا يخلف غير المتاعب والالام!

يوميات وحيد #10

وجد نفسه محصورا من الآمه وتجربته العاطفية .. شعر بضيق نفس واراد ان يفضفض لاحد الاشخاص وكان هذا الشخص هو “امين خدمته”. لم تكن الفضفضة للفضفضة في حد ذاتها، ولا للتخفيف عن نفسه، ولا لطلب النصح حتى، ولكن كأنه يضيف بسرده لتجربته خبرة الى الخبرات السابقة لدى “مرشده الروجي”، الذي يثق فيه وينظر اليه نظرة اعجاب لكونه استطاع ان يحتفظ بحياة التكريس للخدمة الى هذا الوقت وقد تجاوز الستين من العمر.

في البداية تنهد بعمق وبدأ بلهجة حزينة كئيبة :

انني لن اسمح ان انجر واسقط فيما سقطت فيه هذه المرة!

– ماذا حدث؟

– تقدمت الى خطبة .. لقد كانت تجربة عاطفية قاسية.. ومع انني لم اتحدث اليها سوى عشرة دقائق على انفراد، الا انها لم تكن هينة. لقد شعرت ان قلبي قد انخلع من صدري.. وذكرني بالمرة السابقة ويبدو ان كل مرة اتقدم فيها لخطبة احداهن يزداد الامر سوءا. لذا سأكون حذرا الا يتكرر الامر ثانية.. لقد شعرت بألم حاد في قلبي طوال يوم كامل..

وفي النهاية ردد عبارة سمع احدهم يرددها “يا رب اشف نفسي”.

رددها هذه المرة بمذاقة جديدة.. وبشعور كامل بمعناها..

لقد تبدد مشروع الخطوبة بنفس السرعة التي بدأ بها. كما انه تبدد على يد نفس الاشخاص الذين ارادوا له ان يتم.. وهو امر يدعو للعجب! وانا اقصد بهؤلاء الاشخاص حما اخي “عم الفتاة” وزوجة اخي.. هم تقريبا من ارادوا لها ان تسكن في القاهرة جوار اخوتها..مع انهم يعلمون انني لا املك سوى بيت في الاسكندرية. وكذلك تبدد المشروع على يد اب اعترافي الذي نصحني ان اخذ شقة “ايجار قانون جديد” كما طلب عم الفتاة. وبعد ان وافقت عدت وعدلت عن نصيحته وقبلت نصيحة ابي الا اتحمل اعباء دفع ايجار شقة وانا لدي بيت.. هكذا استمعت لنصيحة ابي الروحي في امر ولم استمع في الباقي.. يجب ان امشي على مسار واحد: اما الطاعة الكاملة او تمحيص الامور بعقلي دائما؟

يقول البابا شنودة عن علاقة الانسان بالمرشد الروحي:

إذا شك إنسان فيما يكون خيراً. عليه أولاً أن يتروي حتي يتثبت. ومن الممكن ايضاً أن يسترشد بغيره.

يستشير شخصاً راجح الفكر وواسع العقل. وذا خبرة في مثل هذا الأمر. فيضيف إلي عقله عقلاً. وربما يطرق معه زاوية معينة. أو يعرض له بعض ردود الفعل.

من أجل ذلك أوجد الله المشيرين وذوي الخبرة والفهم. كل منهم دليل في طريق الحياة. كما أوجد المربين والحكماء. وجعل هذه المشورة أيضاً في مسئولية الوالدين والمعلمين والقادة. وكل من يؤتمنون علي التربية والتوعية والإرشاد.

ولكن يُشترط في المرشد الذي يدل الناس علي طريق الخير. أن يكون هو نفسه حكيماً. صافياً في روحه.

وينبغي أن يكون هذا المرشد عميقاً في فهمه. لئلا يضل غيره من حيث لا يدر ي ولا يقصد. فقد قال السيد المسيح “وأعمي يقود أعمي. كلاهما يسقطان في حفرة”.

حقاً ما أصعب السقطة التي تأتي نتيجة أن يتبوأ إنسان غير مؤهل مسئولية الارشاد. فيضّيع غيره. فلا يصح إذن أن يسرع شخص باقامة نفسه علي هداية غيره. نتيجة ثقة زائفة بذاته.

لذلك كان كثيرون من المتواضعين يهربون من مراكز القيادة الروحية. عارفين ان الشخص الذي يقود غيره في طريق ما. أو ينصح غيره نصيحة ما. إنما يتحمل أمام الله مسئولية نصائحه وإرشاداته.

فعلي الإنسان حينما يسترشد. أن يدقق في اختيار مرشديه:

ولا يسمع لكل قول. ولا يجري وراء كل نصيحة مهما كان قائلها. ولا يتبع الناس بل يتبع الحق. لأنه “ينبغي ان يطاع الله اكثر من الناس” فنصائح الناس يجب أن تكون موافقة لوصايا الله.

يوميات وحيد #6

westnewyorkgirl

وخرج وحيد فركب سيارته ومضى الى مكان خال ليتنفس الصعداء به، لقد شاء فترة من الراحة بين رحاب الطبيعة الساحرة وقلب النظر يمنة ويسرة وفي كل صوب واتجاه يتنشق الهواء العليل بسرور وابتهاج. واستل من حقيبته ورقة ليداعب افكاره، فتناول القلم وراح يكتب:

انا الان اجلس وحدي. المناخ معتدل والطقس منعش لطيف يبعث في النفس صحة ونشوة. انشرح صدري لان جمال الطبيعة يفرض نفسه على المرء فرضا. الطبيعة دائما لها مسحة من الجمال لا يحسن التعبير عنها الا الشاعر ولا يراها الا كل متأمل. وانا الان مسحور بجمالها، فالسماء والارض والهواء والجبل والشجر ايات من الفن الجميل. هنيئا لمن يستطيع ان يرسم لوحة فنية لهذه المناظر الخلابة، او ينظم قصيدة في وصفها.

وجد نفسه مدفوعا للتفكير في حديثه السابق مع بيير وجانيت بخصوص الزواج فراح يكتب:

“الموضوع مطروح عليّ. انما لم ينضج. اميل الى الجميلات المتعلمات. انما فوجئت اليوم بفكرة اخرى: “المرأة الفاضلة من يجدها؟ هل الزواج حاجة جسدية وفى؟ الحقيقة هي ان الزواج ابعد من الحاجات . الرجل يشقى في الحياة، والمرأة تخفف من وطأة شقائه وويلات حياته. والمرأة تحمل الزوج كصليب، والزوج مصلوب ايضا. وكيف يتحمل الاثنا بعضهما البعض كصليب دون المحبة؟ فهما في الفضيلة دون ان يدريا، والمحبة هي سدى ولحمة زواجهما. لولا المحبة والفضيلة لما استطاع زواجهما ان يصمد امام تقلبات الحياة.

الزواج صليب والصليب حلو، لانه رمز وحياة. رمز لاعظم حب عرفه الانسان – محبة الفادي للانسان، وحياة واقعة لابد ان تعاش، كل احتكاك يومي بين اثنين ذو حلاوة ومرارة. ولكن الحب الزوجي وقدوم الاطفال يغلّب الحلاوة.

الزواج حلاوة، وقلب الزوجين يختلج على الدوام: من نظرة، من كلمة، من فكرة، من موقف، من ملاحظة يبديها احدهما للاخر ، من دمعةن من حركة وجه او يد، من اطراقة فكر او  او او الى ما لا نهاية

وحيد #4

وحيد

كانا جانيت وبيير يتنزهان في الحديقة. عندما لمحا وحيد يلعب مع بعض الاطفال، فناديا عليه:

– وحيد. وحيد، دع الاطفال وتعال الينا.

ذهب اليهم وجلس الى جانبهم. وغمزت جانيت لزوجها بعينها غمزة ذات معنى، ادرك معناها بيير واومأ براسه فبدأت قائلة:

– ما دمت تحب الاطفال يا وحيد، لماذا لا تسعى الى الزواج؟

– المسألة تحتاج الى مزيد من التفكير.

– الدنيا من حواليك مليئة بفتيات جميلات ومتعلمات. ماذا تنتظر؟ ولماذا تتأخر؟

صمت وحيد اذ ان هذه الاسئلة لا يستحسن الاجابة عليها اجابة مقتضبة. لكن بيير لم ينتظر اجابة وحيد فقال متسائلا:

– هل لم تجد الفتاة جميلة؟

– لماذا لا تقولان اني لم اجد بعد الزوجة الصالحة؟

تدخلت جانيت مجددا:

انني اتساءل كيف لم تجد الزوجة الصالحة الى الان. انكم جميعا حمقى ايها الرجال، لانكم لا تقدرون قيمة الزوجات في حياة ازواجهن. اعذروا حديثي ولكنكم لا تفقهون شيئا في شئون النساء.

صمت بييير دون ان يفضح ذلك الارتباك الذي يعتري عادة كل شاب عندما يقابل بهذه الاسئلة وتنهال عليه مثل هذه الاتهامات. قطع لحظة الصمت بيير قائلا:

– في بلادنا يسأل الناس اولا عن الجمال.

– ولكن الفضيلة مطلوبة ايضا.

– والجمال ايضا امر رئيسي ، ان الله جميل يحب الجمال.

– لكن كم اضر الجمال بصاحبه. هل تعرف كم عدد النساء الجميلات البائسات؟

– وهل اجرى احصاء لذلك؟

– لا. هذه امور لا يعلمها الا الله. فالتعاسة كثيرا ما تكمن في الصدور و لا تظهر في العلن. انا اعرف انك ضد الظاهر. انت مع الباطن دوما.

– اين هو قلبك؟

– في صدري، بين رئتي؟.. دعك من الدعابة ولنتحدث جديا. هل بحثت مسألة ..

لكن وحيد قاطعه سائلا:

– هل تستطيع ان تبقى ربع ساعة بدون تنفس؟

– لا.

– ومتى توقف القلب عن العمل مات الانسان. اعرف اهمية القلب اذا.

– لا اهمله. ولكن الصالحون في الظاهر قد يكونوا منافقين، بينما يقبع الصالحون الحقيقيون في الاماكن المهملة.

– ولكن هذا لا يمنع من ان نعود العين على التحول عن الظاهر للتعمق في الباطن. ان التربية السطحية كم اضرت بالكثيرين. امهات سطحيات يقتلن شخصيات اطفالهن في تفاهات عالمهن الفارغ، والتدليل، والطعام والشراب بدون قانون او نظام، اوحساب، او بصر او بصيرة.

استطرد بيير معقبا:

– عندك حق. كذلك المدارس لا رؤى مستقبلية ولا مخطط تعليمي ولا تربوي مدروس جيدا ولا اهتمام بالادب ولا بالفن ولا بتهذيب النفس ولا ..

– نعم، لقد طغى طلاء التعليم السطحي وسد منافذ النفس حتى كادت ان تختنق.

– كلامك هذا يفترض ان تكون كل ام استاذة في كلية التربية وعلم النفس.

– لا، ليس بالضرورة. ان اما جاهلة امية تستطيع ان تلقن ابنها مبادئ عميقة، ان كانت شخصيتها موزونة. اما ترى في المدارس والجامعات اناسا شديدي التهذيب من بيوت متواضعة واناسا موتورين وسيئ التربية من بيوت علم؟

– عرفت شيئا من ذلك. انه لامر عجيب. هل تعرف السبب؟

– توازن الشخصية هو العنصر الاساسي في تربية اطفالنا.

– وهكذا لا تبقى للجمال من دور. كل تركيزك على حسن التربية.

– ظلمتني.

اه يا وحيد ، لشد ما تبدلت تبدلا عظيما..

كان وحيد يلقي نظرة كلها دهشة. اراد ان ينهض لمغادرة المكان، غير انه عاد الى مقعده حالما امسك بيير بمرفقه ضاغطا عليها برفق قائلا:

– لحظة واحدة يا بيير . اظن ان جانيت منفعلة قليلا.

هتفت جانيت وهي تلوح بيدها، دلالة على نفاذ صبرها وقالت:

– انت تظلم نفسك.

اكتفى بيير بهز رأسه جوابا على ذلك الاتهام ثم استطرد:

– اجمل زوجة في العالم تنفّر زوجها ان كانت جاذبيتها الروحية معدومة. الجمال الجسدي يرضي الزوج كمراهق كبير الى حين ثم يضمحل بعد ذلك.

– وهل ما درسناه عن الغرائز سطحي كما تصوره؟

– لا. انما الانسان جسد وروح.

– وما علاقة الروح بغرائز الجسد. الجسد جسد والروح روح.

– لا يستطيع العلم ان يحدد فواصل بين الروح والجسد. الانسان جسد وروح في شخص واحد بل بالاحرى شخص في جسد وروح.

– هل تريد ان تقول ان هذا ما زال امرا مجهولا بالنسبة للعلماء.

– نعم، وتبقى الالغاز اكثر من المدركات.

– هل تريد ان تقول ان الحس النفسي له جذوره في الغريزة الجسدية والعكس؟

– أليس من الافضل ان تقول ان الغريزة الجسدية لدى الانسان متجذرة في المكون النفسي؟ هناك من طووا الايام الكثر صوما عن الطعام، فهل لدى الحيوان ذرة من التفكير ليتخذ قرارا بالانقطاع عن الطعام بينما يمرح في مرعى خصيب؟

وتردد برهة ثم اردف: وهناك رهبان وراهبات يعيشون متبتلين عن قناعة ورضى.. هذه كلها مسائل ارادية.

رد بيير موافقا:

– نعم، فالحيوان ليس له ارادة.

– وايضا لا حرية. الارادة الحرة هي التي تصنع مصيرنا الشخصي.

– على هذا تكون المسائل الروحية ذات المقام الاول في نظرك.

– طبعا. “الذين يزرعون للجسد من الجسد يحصدون فسادا” وايضا “اهتمام الجسد هو موت واهتمام الروح هو حياة وسلام. ان عشتم حسب الجسد فستموتون، ولكن ان كنتم بالروح تميتون اعمال الجسد فستحيون”.

– لكننا نرى بعض الناس يعيشون لبطونهم؟

– يعيشون كحيوانات حتى تثور كرامتهم الانسانية ضد سلوكياتهم البهيمية. الانسان في النهاية عنده ضمير يثور على اخطاءه وعقل يميز به الصواب من الخطأ.

كانت تلك العبارات السلبية لا تستلفت اهتمام بيير . لكنه قال مستفسرا:

– وكيف يثور ضميرهم ان كانوا سكارى مغتبطون بخمر ترفهم؟

– لا نعرف متى تثأر الطبيعة البشرية لكرامتها، ولا متى يستيقظ الضمير من غفلته، ولا متى تتحرك صورة الطفولة البريئة فيهم.

– تقصد متى تبرز المبادئ التي اودعتها التربية في نفس الانسان من صغره.

– نعم، فالام صاحبة مئات والاف الصور في ذهن الطفل. تظل ملازمة له الى يوم وفاته.

– اذا الضمير يمكن ان يصحو. ماذا عن الجسد؟ متى يثور؟

– الجسد يثور متى تحمل جهدا فوق طاقته. ومن منا يستطيع ان يحصي تقلبات انسان واحد ليحصي تقلبات مليارات البشر؟

قال وقد تقلص وجهه تقلص التعجب:

– وهل الانسان معقد الى هذا الحد؟

– ليس فقط معقد. بل مليارات من العقد.

ظل بيير ساهما للحظات. كان عقله عالقا بالافكار المتلاحقة، انها ليست بالافكار الغريبة والبعيدة عن التصديق ولكنها كانت متعمقة بعيدة عمن يحيون حياة سطحية. ثم قال وهو يمرر يده على جبينه،:

– انت تبالغ. خذ امور الحياة ببساطة.

– البساطة لا تعني السطحية. وانكار تعقيدات الحياة وتقلبات الكيان البشري.

– بهذه الصورة يضحى التعامل مع الناس امرا بالغ الصعوبة وربما خطيرا مع البعض.

– لكن، المحبة الصادقة تبطل القنابل الموقوتة.

– ارحتني. هناك اذا حل لمعضلات البشر.

– المحبة اقوى شئ. انها قوية كالموت تماما.

– ماذا تقصد؟

– الموت لا يستطيع احد ان يتحاشاه. كذلك المحبة تأثيرها لا يستطيع ان ينفيه اي انسان مهما كان شره.

افرومنتيوس #3

استيقظ افرومنتيوس هذا الصباح وقد غمره احساس بالسعادة جعله يبدو وكأنه يحلم. قلبه يدق اسرع من المألوف. عينه اليسرى ترف رفيفا طفيفا. لا شئ يثير الازعاج، لا شئ . وكأن ذلك رسالة قادمة من السماء، اما من النواحي الاخرى، فهو يوم اعتيادي كبقية الايام. كانت الشمس قد اقتربت من المغيب والطيور تزعق وتصيح. بدا الزمن وكأنه قد توقف وانتشر في الجو عبق نباتات عطرية قوية الرائحة. حين سأل ارغاديو افرومنتيوس ان يصحبه الى قلب الغابة ليكملا حديثهما السابق:

لم يكن في ملامح ارغاديو سوى التواء قسمات وجهه بين الحين والاخر التواءا خفيفا حين يسأل سؤالا او يسمع اجابة تثير دهشته. هبت ريح خفيفة بعثرت بعض اوراق الاشجار الى الامام والخلف كما داعبت خصلات شعر ارغاديو الطويلة فيما هو يسأل:

– لكن من هو المسيح الذي ذكرت اسمه المرة السابقة؟ هل هو احد الكتّاب الاربعين الذين كتبوا الكتاب المقدس؟

– لا، ولكنه هو الذي تحدث عنه كل الكتّاب. هو الله الخالق الذي حدثتك عنه. من محبته لنا نزل الى الارض وظهر في شكل مثلي ومثلك  وصنع معجزات لا حصر لها: فتح اعين العميان وشفى المرضى واقام الموتى ..

ظل فرومنتيوس يتحدث الى اركاديو الذي اعطاه اذانا مصغية وقلب مفتوح بشكل كبير، وبدى ان الروح القدس ينير له قلبه.

وفجأة سمع فرومنتيوس الطبول تدق بشكل متتابع سريع حمسي الى درجة بيرة. انتفض فرومنتيوس واراد ان يتيقن من سبب هذا القرع، والذي اعاد الى ذهنه ما حدث قبلا حين التهموا رفيقه، ولم يحتمل مجرد التفكير في انهم يأكلون شخصا اخر. اراد ان يسأل ارغاديو، لكن الكلمات اختنقت في حلقه. اسرع ارغاديو نحو الاكواخ، بينما سار فرومنتيوس بتثاقل مسافة قليلة ثم استند الى جذع شجرة وشرد عقله مجددا في مدى الظلام الذي يعم هذه القبائل، كان ينقل كل لحظات ثقل جسمه من قدم الى اخرى واخيرا تنبه عندما استبد به الارهاق، وشعر بالدوار وهو يرنو الى المياه التي تجرى في النهر المتدفق. امامه كانت الشمس برتقالية تماما، في حين انتشر فوق التلال البعيدة نثار من اللون الذهبي والاخضر الزاهي، تناقض غريب بين جمال الطبيعة ووحشية البشر وظلام الجهل الذين يرزحون تحته.

انتبه حين اقترب اليه شاب وسيم يدعى بودي وقال برفق:

– ما بالك يا فرومنتيوس منزعجا هكذا؟

– ارجوك يا بودي .. ارجوكم لا تفعلوا هذا. ان هذا العمل يغضب الله الذي يحبكم.

– وهل الهك يبغض الزواج يا فرومنتيوس؟

كلا، ولكن ما علاقة الزواج بالقتل واكل لحوم البشر.. لماذا تدقون القبول بهذه الطريقة؟

ضحك بودي وقال:

دقات القبول هذه تعلن زواجي غدا من “زوبا” ابنة عمي. ومن ادراك ربما اليوم او غدا يرسل لنا الله الطعام الذي نحبه (يقصد صيدا اخر من البشر)!

دقات القبول هذه تعلن زواجي غدا من “زوبا” ابنة عمي

اقبل اركاديو زعيم القبيلة يسأل فرومنتيوس:

ماذا بك يا فرومنتيوس؟ وماذا المّ بك؟

انني اسف جدا يا اركاديو ، ولكنني ظننت حين سمعت قرع القبول انكم قد اجتمعتم لتأكلوا صيدا اخر.

اطمئن. فمن اقرب فرصة سأجتمع مع قومي لنتشاور معا في طقوسنا هذه. ثم سأصدر امرا بتحريم اكل لحوم البشر. لقد انرت لي بصيرتي وانني اعتبرك مثل ابني ارغاديو تماما. وكل ما لي هو لك. فقط لا تتركنا وترحل.

غدا سأجتمع مع قومي لنتشاور معا ، ثم سأصدر مرسوما بتحريم اكل لحوم البشر.

شكر افرومنتيوس اركاديو، وشكر الله الذي اعطاه نعمة لدى افراد هذه القبيلة، وبدأ يدرك الهدف الذي لاجله سمح الله بغرق السفينة ومن ثم وجوده في هذه القبيلة، هو نقل لهم نور كلمة الله.