
كانا جانيت وبيير يتنزهان في الحديقة. عندما لمحا وحيد يلعب مع بعض الاطفال، فناديا عليه:
– وحيد. وحيد، دع الاطفال وتعال الينا.
ذهب اليهم وجلس الى جانبهم. وغمزت جانيت لزوجها بعينها غمزة ذات معنى، ادرك معناها بيير واومأ براسه فبدأت قائلة:
– ما دمت تحب الاطفال يا وحيد، لماذا لا تسعى الى الزواج؟
– المسألة تحتاج الى مزيد من التفكير.
– الدنيا من حواليك مليئة بفتيات جميلات ومتعلمات. ماذا تنتظر؟ ولماذا تتأخر؟
صمت وحيد اذ ان هذه الاسئلة لا يستحسن الاجابة عليها اجابة مقتضبة. لكن بيير لم ينتظر اجابة وحيد فقال متسائلا:
– هل لم تجد الفتاة جميلة؟
– لماذا لا تقولان اني لم اجد بعد الزوجة الصالحة؟
تدخلت جانيت مجددا:
انني اتساءل كيف لم تجد الزوجة الصالحة الى الان. انكم جميعا حمقى ايها الرجال، لانكم لا تقدرون قيمة الزوجات في حياة ازواجهن. اعذروا حديثي ولكنكم لا تفقهون شيئا في شئون النساء.
صمت بييير دون ان يفضح ذلك الارتباك الذي يعتري عادة كل شاب عندما يقابل بهذه الاسئلة وتنهال عليه مثل هذه الاتهامات. قطع لحظة الصمت بيير قائلا:
– في بلادنا يسأل الناس اولا عن الجمال.
– ولكن الفضيلة مطلوبة ايضا.
– والجمال ايضا امر رئيسي ، ان الله جميل يحب الجمال.
– لكن كم اضر الجمال بصاحبه. هل تعرف كم عدد النساء الجميلات البائسات؟
– وهل اجرى احصاء لذلك؟
– لا. هذه امور لا يعلمها الا الله. فالتعاسة كثيرا ما تكمن في الصدور و لا تظهر في العلن. انا اعرف انك ضد الظاهر. انت مع الباطن دوما.
– اين هو قلبك؟
– في صدري، بين رئتي؟.. دعك من الدعابة ولنتحدث جديا. هل بحثت مسألة ..
لكن وحيد قاطعه سائلا:
– هل تستطيع ان تبقى ربع ساعة بدون تنفس؟
– لا.
– ومتى توقف القلب عن العمل مات الانسان. اعرف اهمية القلب اذا.
– لا اهمله. ولكن الصالحون في الظاهر قد يكونوا منافقين، بينما يقبع الصالحون الحقيقيون في الاماكن المهملة.
– ولكن هذا لا يمنع من ان نعود العين على التحول عن الظاهر للتعمق في الباطن. ان التربية السطحية كم اضرت بالكثيرين. امهات سطحيات يقتلن شخصيات اطفالهن في تفاهات عالمهن الفارغ، والتدليل، والطعام والشراب بدون قانون او نظام، اوحساب، او بصر او بصيرة.
استطرد بيير معقبا:
– عندك حق. كذلك المدارس لا رؤى مستقبلية ولا مخطط تعليمي ولا تربوي مدروس جيدا ولا اهتمام بالادب ولا بالفن ولا بتهذيب النفس ولا ..
– نعم، لقد طغى طلاء التعليم السطحي وسد منافذ النفس حتى كادت ان تختنق.
– كلامك هذا يفترض ان تكون كل ام استاذة في كلية التربية وعلم النفس.
– لا، ليس بالضرورة. ان اما جاهلة امية تستطيع ان تلقن ابنها مبادئ عميقة، ان كانت شخصيتها موزونة. اما ترى في المدارس والجامعات اناسا شديدي التهذيب من بيوت متواضعة واناسا موتورين وسيئ التربية من بيوت علم؟
– عرفت شيئا من ذلك. انه لامر عجيب. هل تعرف السبب؟
– توازن الشخصية هو العنصر الاساسي في تربية اطفالنا.
– وهكذا لا تبقى للجمال من دور. كل تركيزك على حسن التربية.
– ظلمتني.
اه يا وحيد ، لشد ما تبدلت تبدلا عظيما..
كان وحيد يلقي نظرة كلها دهشة. اراد ان ينهض لمغادرة المكان، غير انه عاد الى مقعده حالما امسك بيير بمرفقه ضاغطا عليها برفق قائلا:
– لحظة واحدة يا بيير . اظن ان جانيت منفعلة قليلا.
هتفت جانيت وهي تلوح بيدها، دلالة على نفاذ صبرها وقالت:
– انت تظلم نفسك.
اكتفى بيير بهز رأسه جوابا على ذلك الاتهام ثم استطرد:
– اجمل زوجة في العالم تنفّر زوجها ان كانت جاذبيتها الروحية معدومة. الجمال الجسدي يرضي الزوج كمراهق كبير الى حين ثم يضمحل بعد ذلك.
– وهل ما درسناه عن الغرائز سطحي كما تصوره؟
– لا. انما الانسان جسد وروح.
– وما علاقة الروح بغرائز الجسد. الجسد جسد والروح روح.
– لا يستطيع العلم ان يحدد فواصل بين الروح والجسد. الانسان جسد وروح في شخص واحد بل بالاحرى شخص في جسد وروح.
– هل تريد ان تقول ان هذا ما زال امرا مجهولا بالنسبة للعلماء.
– نعم، وتبقى الالغاز اكثر من المدركات.
– هل تريد ان تقول ان الحس النفسي له جذوره في الغريزة الجسدية والعكس؟
– أليس من الافضل ان تقول ان الغريزة الجسدية لدى الانسان متجذرة في المكون النفسي؟ هناك من طووا الايام الكثر صوما عن الطعام، فهل لدى الحيوان ذرة من التفكير ليتخذ قرارا بالانقطاع عن الطعام بينما يمرح في مرعى خصيب؟
وتردد برهة ثم اردف: وهناك رهبان وراهبات يعيشون متبتلين عن قناعة ورضى.. هذه كلها مسائل ارادية.
رد بيير موافقا:
– نعم، فالحيوان ليس له ارادة.
– وايضا لا حرية. الارادة الحرة هي التي تصنع مصيرنا الشخصي.
– على هذا تكون المسائل الروحية ذات المقام الاول في نظرك.
– طبعا. “الذين يزرعون للجسد من الجسد يحصدون فسادا” وايضا “اهتمام الجسد هو موت واهتمام الروح هو حياة وسلام. ان عشتم حسب الجسد فستموتون، ولكن ان كنتم بالروح تميتون اعمال الجسد فستحيون”.
– لكننا نرى بعض الناس يعيشون لبطونهم؟
– يعيشون كحيوانات حتى تثور كرامتهم الانسانية ضد سلوكياتهم البهيمية. الانسان في النهاية عنده ضمير يثور على اخطاءه وعقل يميز به الصواب من الخطأ.
كانت تلك العبارات السلبية لا تستلفت اهتمام بيير . لكنه قال مستفسرا:
– وكيف يثور ضميرهم ان كانوا سكارى مغتبطون بخمر ترفهم؟
– لا نعرف متى تثأر الطبيعة البشرية لكرامتها، ولا متى يستيقظ الضمير من غفلته، ولا متى تتحرك صورة الطفولة البريئة فيهم.
– تقصد متى تبرز المبادئ التي اودعتها التربية في نفس الانسان من صغره.
– نعم، فالام صاحبة مئات والاف الصور في ذهن الطفل. تظل ملازمة له الى يوم وفاته.
– اذا الضمير يمكن ان يصحو. ماذا عن الجسد؟ متى يثور؟
– الجسد يثور متى تحمل جهدا فوق طاقته. ومن منا يستطيع ان يحصي تقلبات انسان واحد ليحصي تقلبات مليارات البشر؟
قال وقد تقلص وجهه تقلص التعجب:
– وهل الانسان معقد الى هذا الحد؟
– ليس فقط معقد. بل مليارات من العقد.
ظل بيير ساهما للحظات. كان عقله عالقا بالافكار المتلاحقة، انها ليست بالافكار الغريبة والبعيدة عن التصديق ولكنها كانت متعمقة بعيدة عمن يحيون حياة سطحية. ثم قال وهو يمرر يده على جبينه،:
– انت تبالغ. خذ امور الحياة ببساطة.
– البساطة لا تعني السطحية. وانكار تعقيدات الحياة وتقلبات الكيان البشري.
– بهذه الصورة يضحى التعامل مع الناس امرا بالغ الصعوبة وربما خطيرا مع البعض.
– لكن، المحبة الصادقة تبطل القنابل الموقوتة.
– ارحتني. هناك اذا حل لمعضلات البشر.
– المحبة اقوى شئ. انها قوية كالموت تماما.
– ماذا تقصد؟
– الموت لا يستطيع احد ان يتحاشاه. كذلك المحبة تأثيرها لا يستطيع ان ينفيه اي انسان مهما كان شره.
قيّم هذا المحتوى من فضلك: