شهيد السراديب -1

wp-1492186020595

​محاكمة بولليو

كانت هذه حجرة كبيرة في مبنى ليس بعيدا عن القصر الامبراطوري، وكان بلاطها من الرخام اللامع، واعمدتها الرخامية تحمل القبة المرتفعة. وفي اح الاركان اقيم المذبح الوثني تعلوه تماثيل لالهة وثنية. في الناحية الاخرى كان القضاة باثوابهم التقليدية يجلسون على مقاعد مرتفعة ، وامامهم بعض الجنود يحرسون احد المسجونين.

وكان هذا المسجون هو الغلام “بولليو”.

كان وجهه شاحبا ولكن مظهره كان منتصبا وثابتا، وذكاؤه الواضح الذي كان يتميز به دائما لم يخنه في ذلك الوقت. تطلع بعينيه الحادتين الى كل شئ حوله، عالما المصير المؤلم سيواجهه ولكن لم يكن عنده اي اثر للخوف او التردد.

لقد كان يعلم ان الرابطة الوحيدة التي تربطه بالارض قد انقطعت ، فقد وصلت اليه اخبار موت امه باكرا  في هذا الصباح، حملها اليه رجل كان يعلم ان هذه الاخبار ستقوي ايمانه! كان ذلك الرجل هو “مرسيللوس” وكان لتعطف لوكيوللوس صديق القائد الروماني ايضا انه سمح بمحاكمته. وكان تقدير مرسيللوس للامور صحيحا، فطالما كان بولليوس يعلم ان امه على قيد الحياة فقد كان التفكير فيها يضعف من تصميمه، ولكن الان واذ علم انها ماتت فقد كان هو الاخر يشتهي ايضا ان يرحل. وكان الفتى في ايمانه البسيط يؤمن ان الموت سوف يجعله يتحد لتوه مع امه الحبيبة. وبهذه المشاعر كان ينتظر المحاكمة المقبل عليها:

“من انت؟”

“ماركوس سيرفيليوس بولليو”.

“ما عمرك؟”

“13 سنة”.

وعند ذكر اسمه ، سرت همهمة من التعاطف بين المجتمعين لان ذلك الاسم “سيرفيلليوس” مشهور في روما.

“انت متهم بجريمة انك مسيحي، هل عندك ما تقوله؟”

“انا لست مجرما في شئ. انا مسيحي وانا سعيد انني قادر ان اعترف بذلك امام الناس!”

فقال احد القضاة:

“نفس الشئ معهم كلهم. كلهم لهم. كلهم لهم نفس اسلوب الكلام”

“هل تعلم طبيعة الجريمة التي انت متهم بها”.

فرد عليه بولليو:

“انا لست مجرما. ان ايماني يعلمني ان اخاف الله، وان اكرم الامبراطور، وانا اطيع كل قانون عادل وانا لست خائنا”.

“ان تكون مسيحيا فهذا معناه انك خائن”.

“انا مسيحي ولست خائنا”.

“ان قانون الدولة يمنعك ان تكون مسيحيا والعقوبة هي الموت. اذا كنت مسيحيا فانك يجب ان تموت”.

فرد عليه بولليو باصرار:

“انا مسيحي”.

“اذا يجب ان تموت”.

“ليكن كذلك!”.

“هل تعل ايها الغلام ما معنى ان تواجه الموت؟”.

“لقد رأيت الموت كثيرا خلال الاشهر القليلة الماضية وكنت اتوقع دائما ان ابذل حياتي من اجل الهي”.

“انك صغير، ايها الصبي، ونحن نشفق على عمرك الغض وعدم خبرتك بالحياة. ومن الواضح انهم غسلوا مخك حتى انك تعتبر غير مسئول عن الحماقة التي تبديها الان، ولاجل هذا فاننا نطيل صبرنا عليك. هذه الديانة التي تفتنك لا تزيد عن كونها حماقة: ان تؤمن ان يهوديا مسكينا صلب منذ 200 سنة هو الله. هل هناك حماقة اكثر من هذه؟! اما ديانتنا نحن فهي ديانة الدولة الرسمية والان دع عنك اعتاداتك الحمقاء وعد الى ديننا القديم الحكيم”.

“لا استطيع”.

“انك اخر سليل لعائلة نبيلة. اطرح عنك هذه العقيدة المرذولة التي حتما ستحرمك من كل شهرتهم العظيمة”.

لا استطيع”.

“لقد عشت تعيسا مطرودا، وان افقر شحاذ في روما يحيا افضل منك ويحصل على طعامه بجهد اقل منك وبمذلة اقل منك. ارجع الان عن غيك وستنال الثروة والراحة والاصدقاء وتكريم الدولة ورضا الامبراطور”.

“لا استطيع”.

“انك صبي متهور. وسترى ان غضب الامبراطور مخيف”.

“ولكن غضب الخروف اكثر رعبا من ذلك”

“انك تتكلم كلاما غير مفهوم! ما هو غضب الخروف هذا؟”

“لقد احتمل اصدقائي ورفاقي كل في امكانكم ان تصبوه عليهم من غضب. وانا واثق ان عندي ثباتا مثلهم”.

“هل يمكنك ان تحتمل اهوال حلبة المصارعة؟”

“انا عندي امل ان احصل على ما هو اعظم من القوة البشرية”

“هل تستطيع ان تواجه الاسود المتوحشة والنمور التي سوف تهجم عليك؟”

“ان ذاك الذي اثق فيه لن يهملني في ساعة احتياجي اليه”.

“انك واثق في ذاتك، اذا”.

“انا اثق في ذاك الذي احبني واسلم نفسه للموت لاجلي”.

“وهل فكرت في الموت حرقا بالنار؟ هل انت مستعد لملاقاة السنة اللهب في الساحة؟”

“اذا كان يجب ان احتمل فانني لن ارتد، وهي على اي حال ستمضي وسأبقى انا بعد ذلك مع الرب الى الابد!”

“لقد استولى التطرف والوهم. من السهل ان ينطق الانسان بكلمات الشجاعة، ولكن ماذا يكون الامر معك عندما تواجه الحقيقة المرعبة؟”

“انه سيعطيني قوة اغلب بها الموت. اني انظر الى الموت على انه انتقال من الحزن الى الفرح الدائم. والموت الذي تهددوني به ليس مرعبا لي. ولكن الحياة التي تدعوني لان احياها ، هي مرعبة لنفسي اكثر من الموت الف مرة”.

“اننا نعطيك فرصة اخيرة. ليس عليك سوى ان تأخذ هذه الكاس وتسكب الخمر التي فيها على هذا المذبح القريب. خذها. ان هذا عمل بسيط. اعمل بسرعة وانقذ نفسك من العذاب والموت”.

وتسمرت كل العيون على بولليو ، ولكن الدهشة ملات اذهان المتفرجين اذ وجدوه لم يتحرك البتة.

وقف بولليو بوجهه الشاحب ولكن بارادة ثابتة ازال الكأس جانبا. وقال

“انا لا انكر مخلصي ابدا”

وعندما قال هذا ساد صمت للحظة، صاح بعدها رئيس القضاة:

“لقد نطقت بالموت على نفسك. خذوه من هنا”

قال هذا مخاطبا الجنود.