ما أن دخل الراهب نوفير إلى الإسطبل ، الكائن فى الركن الغربى البحرى من الدير بجوار الباب ، حتى رمقه الحمار المربوط بالداخل ، بنظرة توسّل وكأنه يرجوه أن يرحمه من ذلك العمل الثقيل والمملّ، والذى لم يتغير لسنوات طوال.
ولكن الراهب كان مضطراً ، فهذا ترتيب الأب الرئيس ، وهذا هو الاحتياج الذى لا بديل له ، فقد اهتدى الآباء إلى طريقة يحصلون بها على مادة يستخدمونها فى البناء وفى (محارة) الحوائط، فكانوا يجمعون الجبس من الصحراء ويقومون بإحراقه فى الفرن ومن ثم يقومون بطحنه فى طاحونة خاصة .
دخل الراهب فى خطوات محسوبة (لتكرارها) وانحنى فوق الوتد ، ليحل منه الحبل الممسك بالحمار، الذي لو خيّر، لاختار الأسر فى الوتد على العمل تحت النير، ربت الراهب على ظهره قائلاً (هيا يا مبروك) ، وولى ظهرة له ثم سحبه فى هدوء إلى الخارج ، بينما الحمار يتعثر فى مشيته وتتشبث حوافره فى الأرض ، يتمنى كل الأيام أحاداً وكل الأوقات ليال ٍ ، ليعتق من هذا العمل.
وفى حجرة الطاحونة ، شٌد الحمار إلى النير ، بعد أن وضع ساتراً على عينيه (هكذا يفعلون لكى ينظر أمامة فقط) ثم لكزه بيده وكأنه يعطيه إشارة البدء ، ويدور الحمار فى دوران بطىء ، مديراً معه عارضة خشبية مثبتة فى قائم يدور هو الآخر ولكن حول نفسه ، وحول العارضة يدور حجر طاحون صلد ، ليطحن الجبس .
ويمضى الوقت وئيداً، ويدور الحمار ، وتئز الحصى تحت الحجر ، وتنتشر ذرات التراب البيضاء لتدخل إلى رئتى الراهب ، ولتكسو ملابسه ووجهه بطبقة رقيقة بيضاء ، بينما هو واقف يراقب سير العمل ، وبين آن وآخر يعيد الحصى – الذى فرقه الحجر – فى صف واحد فى إنتظار أن يطحنه الحجر ، وبين آن وآخر يتمتم بصلوات سهمية قصيرة ..
وكلما أتم طحن شيىء من الجبس ناعماً ، عبأه فى أكياس ، وأعده للعمال الذين سوف يستخدمونه فى أعمال البناء.
وتمضى الأيام …ويتطرق الملل إلى الراهب نفسه ، ويجلس ذات ليلة يحدث نفسه..
“وما الدعى لكل هذا ؟! يقولون أن الهدف من العمل هو اقتناء الفضائل ، ولكن الإرهاق يمنعنى من إتمام واجباتى الروحية ، ويجعلنى أكثر تذمراً وأقل احتمالاً..”.
ثم تحسّس كتفه الأيمن ، مكان الرقعة التى مات الجلد فيها من فرط ما حمل عليها من قفف الجبس من وإلى الطاحونة ، تلك التى قضى فى العمل فيها ما يزيد على
أربعة سنوات ونصف السنة ، ثم الثياب التى تحتاج كل يوم إلى غسل … والسعال
الشديد الذى يعانى منه بسبب امتلاء رئتيه من ذرات الجبس .
وسرح بفكره .. وفى يقظته حلم حلماً .. فقد وجد الطاحونة وقد اختفت تماماً من بين أبنية الدير ، ثم إذا فى مكانها أقيمت قلاية صحية ومريحة … وسكن هو فيها … وصار يقرأ ويصلى ويرتل..
ثم لاحت له فكرة لماذا لا يذهب إلى أب الدير ، ويسأله أن يعفيه من العمل فى الطاحونة ؟ ولكنه عاد ليبتسم ساخراً من نفسه ، فمن أين له بذلك ، وليس له من الحجة ما يجعل الأب يجيبه إلى طلبه ؟
وانتبه مرة أخرى فإذا الحمار قد تعثر فى سيره ، فقام ليصلح له السرج، والنير، وبعد ذلك تراجع قليلاً حتى استند بمرفقه إلى الحائط ، واستسلم مرة أخرى لملاطمة الأفكار .. ورأى ذاته يضرب بقدمه فى الأرض وهو يتمتم فى قنوط ..لابد من نهاية .. واليوم …
ففى الليل، تسلل إلى الطاحونة (حيث كان الشيطان يرقص) وغاب داخلها عدة دقائق ، وانطلق بعدها فى خفة وهدوء إلى قلايته ، ثم ماهى إلا دقائق، حتى تعالت الأصوات ، وارتفعت ألسنة اللهب ، وتكاثف الدخان وسمعت قرقعة من الداخل.
وهب الرهبان من نومهم أو من خلوهم ، واندفعوا نحو مصدر الصوت والنار وسحب الدخان ، وكثرت الحركة وزاد اللغط والصياح ..وحمل البعض ماءً فى بعض أوان فخارية مختلفة الأشكال والأحجام ، والبعض الآخر حمل قففاً من الرمال …وتمتم الشيوخ بصلوات .. واستدراراً لمراحم الرب ولطفه .
وخمدت النار ، ولكن بعد أن أتت على كل ما يسمى خشبأًُ داخل الطاحونة ، القوائم والعوارض والأبواب والشبابيك، والنير والسرج والرفوف والسقف، كما لفحت النار بعض وجوه وأذرع الغيورين …ونظر الأباء بعضهم إلى البعض الآخر فى دهشة وتساؤل ، ولكن ارتفعت أيضاً عبارات الشكر من الأفواه ، لأن الأمر لم يتجاوز ما حدث.
(2)
فى قلاية الأب يعقوب جلس الراهب نوفير يروى ما فعل ، وقد اختنقت عبراته ، ولكن الأب الكبير هدأ من روعة ، وأمره أن يلتزم الصمت تجاه ما حدث وأن يترك الأمر كلية.
كان الأب يعقوب يعرف أن العقاب المناسب فى مثل تلك الحالة ، هو الطرد من الدير لمن أقدم على مثل تلك الفعلة الشنعاء ولكن قلبه نبض حباً، وتأججت نار الأبوة الروحية بين جنباته ، خاف على ابنه الروحى من الضياع ، واليأس الذى يفغر فاه ليبتلعه خارج باب الدير.
وفكر طويلاً….ثم قام من فوق الأريكة التى كان يجلس عليها، ودس رجليه فى النعل القديم ، وانتصب يصلى طويلاً، قبلما قبّل (صورة السيد المسيح فى جسثيمانى)المعلقة خلف باب قلايته ، ثم خرج إلى خارج، وقد باتت نيته على شيىء …وقّر فى نفسه قراراً.
أصبحت الطاحونة مسرحاً ، يرتادة بين الحين والآخر ، وراهب أو اثنان ، يعاينا ما حدث، والحوائط التى اتشحت بالسواد ، والرائحة الخانقة التى أمسكت بتلابيب الحجرة، مع شيىء من الضيق والدهشة.
وبالقرب من المكان ،وقف الأب زكريا أمين الدير ، وقد عقد كلتا يديه على رأس عصاه وأراح ذقنه فوقها، يفكر ملياً ، ولعلهم- الآباء وأمين الدير – كانوا يفكرون فى ذلك الوقت فى استشارة الأب يعقوب فى هذا الشأن ، نظراً لحنكته ومحبته الدافقة ، ولما هو معروف عنه من حكمة وخبرة ووقار.
حين فاجأهم جميعاً وهو يرتدى ملابساً كاريكاتورية ، ويضحك فى جنون ضحكات بلهاء، ويشير الي الطاحونه وهو يقول ( هذه اولي انجازاتي .. ثم ضحك مرة أخري، كما يضحك السكاري ..
والتفت الآباء وقد عقدت الدهشة ألسنتهم ، فما عهدوا فيه ، إلاّ المشير الحكيم والرأي الراجح ، وخط الرجعه عند كل خلاف!
عند ذلك تقّدم هو ، من الأب زكريا، وقال له في بلاهة مصطنعة: خداع شياطين .. ( ثم بصوت أعلي ) ما جئنا لنطحن .. وننسي هدفنا .. الفضيله والتوبة .. سأطهّر الدير ، سأرغمكم علي الامتثال للحق الرهباني ..
وأما الراهب نوفير فقد جلس يبكي في قليته ولم يغادرها، ولم يتهمه أحد بشئ، ربما يكون قد ترك مصباحاً مضيئاً نسيه قبل أن يغادرها ، فأجابهم بالنفي .
وبعد تشاور كثير، وأخذ وعطاء ، وشد وجذب ، واختلاف ثم اتفاق ، أقروا جميعاً وجوب أن يعالج الشيخ .. ولم نعد القضية قضية حجرة احترقت وانما بالأحري قضية الأب يعقوب الذي راح عقله (حسب اعتقادهم ) ولكن كيف وأين ؟! واصطحب الأب زكريا معه اثنين من الآباء الرهبان, وتوجهوا حيث توجد قلايته ، وهناك في القلاية، لم يحتف بهم ولم يكترث، وهم بدورهم لم يبالوا بذلك ، وإنما بعد تردد كثير..قالوا له: ” أنت مرهق ومتعب فوق الطاقة .. وقد رأينا أنه من الأوفق لك أن تستريح في مكان هادئ لفترة ، وتجئ بعدها إلي الدير”.
لم يناقشهم .. ولكنه لم يكن يحسب أن الأمر سيصل به إلي أن يحملوه إلي مستشفي الأمراض العقلية! ورضي بذلك ، وحملوه الي هناك حيث تركوه ومضوا .
وعلى باب الدير، وقف جمع من الآباء يشيّعون الأب يعقوب بنظرات ملؤها التساؤل والشفقة ، وعرض أحد أبنائه الروحيين متطوعاً أن يرافقه في المكان الذي سيتركونه فيه، ولكنهم اعتذروا له ، ونصحوه أن يحول هذه الرغبق الي طلبه يقدمها عنه في كل صلاة . وفي أثناء كل ذلك ، كان الأب يعقوب، يردد بصوت يكاد لا يسمع : عار المسيح غنى .. عار المسيح غني ..
>4<
في السراي الصفراء، تم استقبال الاب يعقوب، وقد تم تدوين اسمه في السجل الذي يحوي نزلاء المستشفى، وتشخيص حالته بانها لوثة عقلية مفاجئة. وهناك وضعوه في عنبر المستشفى مع خمسة اخرين، تحت المراقبة.
وفي كل التقارير التي دونت عنه، جاء انه شخص عادي لا يصدر عنه ما يشكك في سلامة عقله. ولكن ادارة المستشفى لم تر في ذلك دليلا قاطعا على سلامته، او مبررا لتسريحه من المستشفى، بل استصوبوا التحفظ عليه لفترة.
وكان بين نزلاء العنبر، موجه سابق للغة الفرنسية، اعتاد هذا على ان يذرع غرفته –اغلب النهار – جيئة وذهابا، وهو يتمتم بكلمات فرنسية، فيما عدا هذه الاوقات، كان يبدو عاقلا صدوقا. وعرف منه الاب يعقوب، بانه كان مولعا باللغة والادب الفرنسي، وان حادثا مريرا حدث له فذهب بعقله، لدرجة انه كان يصرخ بين آن واخر بشكل مباغت..
ورأى الاب يعقوب في نزلاء العنبر، النفس البشرية المفعمة تعبا ومرارة، وان كان متأكدا بحكم خبرته وسنه، ان المجنون يحسب نفسه دائما اعقل العقلاء، كما ينظر للباقين نظرة استخفاف، وبأنه (اي الاب يعقوب) مطالب بتسديد الخدمة لاولئك المساكين، فاحبهم وبادلوه حبا بحب، واسرّوا اليه بمتاعبهم واسرارهم، وهو خبير بالنفس البشرية ونزعاتها، والشر الدخيل عليها.
فأكد لهم فيما اكد، انهم اشخاص فوق العادة، موهوبون يفكرون بامعان في كل شئ، و لا يحبون تجاوز اي موقف دون تعليق او تفاعل، وبأن المجتمع اساء فهمهم، او فشل في التعامل معهم.
وفي ذات مرة صرح لهم: “كلنا مجانين، وكل انسان به نسبة من الجنون، وانما هناك من يحرص على اخفائه، وهناك ايضا من يدعه يعلن عن نفسه فيه..” وحينئذ صاحوا يهتفون: يسقط الفساد.. المجتمع يظلمنا.. الناس يسيئون فهمنا..
وازداد المرضى اقترابا منه، وظهر تأثيره فيهم خلال تصرفاتهم، فقد قال لهم ذات مرة ما قاله الاب انطونيوس، من انه يأتي وقت يجن فيه الناس جميعا، واما الذي لا يجدونه مثلهم، فانهم يرمونه بالجنون والبلاهة، وانه ليس بالضرورة في شئ ان نفعل ما يرضي الناس، والناس لا يرضيهم شئ واحد، بل كل له هواه ومنهجه، وانما نفعل ما يرضي ضميرنا، وان كان لي تحفظ يجب ان اقوله وهو ان الضمير يتأثر بعوامل كثيرة كالبيئة، وما نقرأه وما نسمعه، وهو ما يشكل وعينا لذا يجب ان نرجع الى ثوابت المجتمع وان نستشير ذوي الفضل والحكمة، وان نكثر من القراءة.
فرمقوه باعجاب، وهزوا رؤوسهم حاثين اياه على الاستمرار بينما انتاب احدهم ابتهاج طارئ، فرفع طبقا بلاستيكيا به خضار ثم اسبل جفنيه، وراح يسكب ما فيه فوق ام رأسه، في هدوء وحبور!!
واردف الاب يعقوب يقول: غير انه لابد وان نعي جيدا، انه لن تجري الامور وفق ما نشتهي، ولن نستطيع ان نصلح الكون كله دفعة واحدة، وبجرّة قلم، ولكن الامر يحتاج الى التفكير بموضوعية، وان يقوم كل منا بالواجب المنوط به في امانة، ومن المستحيل ان نحسب كل الناس مثلنا ذكاءا ومنهجا، بل علينا ان نؤمن بالتفاوت.
حينئذ صاح احدهم: “ولكن يجب محاربة الانحلال بلا هوادة.
- نعم ، نعم. لكن بالحكمة لا بالقوة، فالقوة سلاح ذو حدين.
لكن احدهم نهض وقام بركل الاب يعقوب في جنبه، وقال: انت بيّاع كلام”.
اجاب في دعة: ابدا. وانما انا اهدي لكم ما تعلمته منكم. واثناء ذلك كان العنبر يعج بنزلاء اتوا بعد اخذ تصاريح بالخروج من عنابرهم..
+++
ضرب الارض بقدمه ساخطا واخذ يكثر من الشتم لنفسه.
وسمع مناداة بصوت ضعيف فيه انّة مخيفة: “ابونا! ابونا!”
فتمتم قائلا : “يارب ابعد الشر عنا!” ثم رشم شارة الصليب ثلاثا.
اسند محدثي مرفقيه على المنضدة واخذ وجهه براحة يده اليمنى و قال:
اصغ الى يا ابونا لقد فتحت قلبي لملاك من السماء والان اريد فتحه لملاك على الارض. وانت هو هذا الملاك.
ان هذا شئ رهيب!
استغرق في التأمل برهة وهو مسند مرفقه على المنضدة ورأسه على راحة يده..
رسم شارة الصليب بحركة عفوية سريعة ، وابتسم ثم دار ومضى ثابت الخطى..
+++
وتمضي الايام ويظهر تقدم ملحوظ على النزلاء فهم اكثر ميلا الى الرزانة، واقل نزعة للشجار والهرج، وصار اكثرهم مستعدا للخروج من المستشفى، ومدير المستشفى يقول لزائريه من اصدقائه وهو يتحدث عن الاب يعقوب: “جاء على انه مريض، واذا به طبيب! ويحق لي ان اقول ان وجوده الايام الماضية بيننا، كان بمثابة شعاعا من نور و قبسا من امل، اخترقا حجب الظلام الذي كان يكتنف نزلاء المستشفى من المرضى”
فوجئ مدير المستشفى ذات صباح بالاب زكريا (امين الدير) يحضر بصحبة اربعة من الاباء الرهبان يسألون كعادتهم (كلما جاءوا للزيارة) عن الاب يعقوب، فصرّح بأنه يمكنهم اصطحاب الاب يعقوب، وارسل فاستحضر الاب يعقوب لكي يزف اليه البشرى بالخروج ومعه ستة من النزلاء الاخرين، فاذا به يفاجئ الكل بقوله:
“.. الوجود هنا مثل هناك.. وربما هنا افضل..”.
وكتب المدير في التقرير: “اعتقد ان هذا الاب تظاهر بالجنون بينما هو عاقل متزن، ويتمتع بقدر وافر من الحكم واللباقة، وهدوء النفس، ولا نعرف دوافعه. وعموما فقد كان وجوده بركة لنا ولجميع نزلاء المستشفى..”
اصطحب الاباء معهم الاب يعقوب بعد ان ودعهم العاملون بالمستشفى بالاكرام، بل ان بعضهم فرّ من عينيه دموعا.
وقال الاباء بالدير فيما بعد، ان ابن المسيح بركة اينما حلّ.
وكان مدير المستشفى يأتي الى الدير بين آن واخر، ليجلس مع الاب يعقوب يسمع في خشوع ويقبل يديه، وعندما سأله ذات مرة: “لماذا صنعت هكذا يا ابانا؟” ابتسم في وقار ولم يجب.
الانبا مكاريوس الاسقف العام
==
يمكنك قراءة القصة الواقعية ببعض التفاصيل على الرابط التالي: