احسب التكلفة

003-gnpi-028-cloth-wineskins

بجوار سور مدرسة للفتيات وقفا سمير وعادل يمزحان ويلقيان تعليقاتهما السخيفة .. قال سمير: “انظر الى هذا الجمال!” فرد عليه رفيقه: “ما اجملها من فتاة! لماذا تخفي كل هذا الجمال خلف كل هذه الثياب؟” وعاد الاول يقول “لو كانت الثياب اقل لكانت اجمل! متعة للناظرين.”

وكادت رقبة الشابين تنخلعان وهما ينظران للفتاة المارة! واستمرا يضحكان ويتبادلان التعليقات على البنات، وعندما مرت فتاة اخرى بحلقا في جسدها .. ولكن نظرهما وقع على رجل خلفهما عرفاه جيدا.

صاح الاول “الاستاذ اسعد.. صباح الخير يا استاذ!”

وصافحهما الرجل: “صباح الخير. لقد جئت الى وسط المدينة للشراء، هل تفعلان شيئا معينا؟ او هل تقتلان الوقت؟”

– انا ايضا سأتسلى واشرب فنجانا من القهوة في هذا المقهى، وادعوكما لتناول القهوة معي”

ولما كان صديقا لاسرتيهما فقد قبلا دعوته، وهمس سمير في اذن عادل: “ترى هل سمع ما قلنا؟” فاجاب عادل: “لا تقلق! كان مجرد كلام! نحن لم نذ احدا!”

وجاءت القهوة ، واخذ الاستاذ اسعد يسألهما عن احوالهما واحوال اسرتيهما، وصمت قليلا، ثم قال: “السبب الذي دعوتكما لاجله للجلوس معي هو ان احدثكما في امر هام!”

– وما هو؟

وانا اسير خلفكما سمعت التعليقات على الفتيات! انا اعرفكما واسرتيكما انكم متدينون كثيرا، ولكن تعليقاتكما اظهرت صورة مختلفة ! هل كان كلامكما يوضح محبة صادقة لله؟

واجاب عادل:

“اسف لانك سمعت هذا! لم يكن من الادب ان نقول ما قناه!”

واستجمع سمير شجاعته وقال:”اظن ان ما فعلناه ليس معصية، فنحن لم نرتكب خطأ – مجرد تفكير! وكلام.. ليس اكثر من كلام بدون تنفيذ!

– وهل تظن ان الله يلاحظ افكارنا؟

– الله يراقب افعالنا، ليجازينا يوم الدين، خيرا كانت ام شرا. ولو فكرنا في امر ردئ دون ان ننفذه فانه يحسبه لنا خيرا، لاننا لم نستسلم للردئ! أليس هذا معقولا؟

وصمت الاستاذ اسعد قليلا ، ثم قال: “اعتقد انكما مخطئان في تفكيركما! قولا لي: ماذا يطب الله منا؟

– اجاب عادل: الصوم .. الصلاة.. الاحسان للمحتاج.. أليس هذا ما يرضي الله؟

هذا صحيح، ولكن نظرة الله اعمق، وقد قال سليمان الحكيم: “لانه كما يفكر في نفسه هكذا يكون” – فالله مهتم بتفكيرنا وقد قال السيد المسيح “من داخل من قلوب الناس تخرج افكار شريرة: زنى، فسق، قتل، شهادة زور، تجديف، حسد”

– كنت احسب ما نفعله هو المهم، وهو الذي يديننا الله عليه في يوم الدين.

– انا لا اتكلم عن دينونة الله الاخيرة فقط، فان لله خطة في حياة كل منا، هنا والان. ان كنت تظن ان اهتمام الله منصب على الدنونة الاخيرة وحدها فانك تكون قد اضعت رؤية الهدف الكامل للبشر، انتبه، لئلا ترتكب خطأ الجاهل الذي حاول ان يبني برجا.

– ومن ذلك الذي اراد ان يبني برجا؟

– هي قصة رواها السيد المسيح، وهي توضح الخطأ الذي كنتما ترتكبانه.

– نرجوك ان ترويها لنا.

– نعم نرجوك! وقد ظهر الاهتمام عليهما وهما يطلبان الاستماع للقصة.. فقال الاستاذ اسعد:

“منذ زمن بعيد عاش رجل احمق طرأت بباله فكرة بعد ان سمع عن احدى خطط الملك.. كانت خطة الملك ان يبني برجا يقيم عليه نصبا تذكاريا فوق مدفنه ، ويا لها من فكرة رائعة! ليتني ابني برجا مثله. وشاغله هذا الخاطر “ولكن هذه الفكرة هي للاغنياء فقط.. وانا لست مهما”. وعندما فكر جاءته فكرة اخرى، فقال لنفسه “وماذا يكون اهم من الموت؟ هل انكر على نفسي مثل هذه الهدية عند موتي”.

ولاح في مخيلته بناء برج مرتفع. فاسترسل في افكاره الحمقاء قائلا “وانا ايضا ابني برجا عاليا جميلا يكون شاهدا على قبري، فيذكرني كل الناس، وهم منذهلون من روعة ما فعلت! وبدأ ينفذ فكرته. وذهب الى خادمه وقال له: اريدك ان تعرض جزء من مزرعتي للبيع!”

تعجب الخادم وقال:

“تريد ان تبيع جزء من مزرعتك! لماذا؟”

نعم ، لاستثمر للمستقبل.

وفي نهاية اليوم. عرض الارض على احد الاغنياء قائلا “هل تريد ان تشتري ارضا في هذا الموقع؟ انه قريب من ارض الملك. انه موقع رائع الجمال، لكنه مكلف جدا.. سيكلفك خمسة الاف قطعة فضية.

– خمسة الاف! هذا كثير جدا.. ولكني سأشتريها!

– لا داعي للقلق على التكلفة، فاني اطلب الافضل. سأضطر ان ابيع جزءا مما املك، لكن لا اهمية لذلك، فما زال عندي الكثير من المال لابني.

واستأجر عمالا للبناء “اريد البرج عاليا.. عاليا جدا بغض النظر عن التكلفة”.

– “تحت امرك يا سيدي! فانت الذي تدفع الحساب.

– احتاج يا سيدي الى اربعة الاف قطعة من الفضة لاجمع الرجال والمواد اللازمة للبناء!

– يا للهول! هذا كثير ولكني اريد الافضل. سأعطيك المبلغ.

وكان سروره بالغا بحجم وعمق الاساسات. وجاءه احد موظفي الحكومة قائلا..

– “انك لم تدفع رسوم الحصول على ترخيص البناء، ولذلك فانك مخالف للقانون.

– رسوم ترخيص؟.. كم هذه الرسوم؟

وناوله الموظف ورقة رسمية، وقال له انها واجبة السداد قبل خمسة ايام.

– ثلاثة الاف قطعة فضية؟ هذا مستحيل! . لابد من بيع المزيد من املاكي.. ولكن المسألة تستحق.

وذهب ليبيع المزيد.

ولم تمض ايام حتى طالبه رئيس العمال بمزيد من المال:

– لقد حان موعد القسط التالي يا سيدي.

– القسط التالي؟

لقد دفعنا اربعة الاف لشراء المعدات ولحفر الاساس. انها قلعة ضخمة كما ترى.

– لكن اربعة الاف كانت اكثر مما قدرت !.. لكني سأحضر لك المال على اية حال.

وبدا وكأنه سيبيع كل ما عنده..

ومضت اسابيع ، وكان يراقب اعمال البناء عندما جاءه موظف الحكومة مرة اخرى، وقال له:

– انت تبني مقبرة. انظر الى عمق الاساسات!. هذا سيغير الموقف.

– هل تعني انك ترد لي جزء مما دفعت من رسوم؟

– لا، ولكنك مطالب بسداد 2500 قطعة اخرى وموعد الدفع لا يزيد عن خمسة ايام.

– 2500 اخرى؟ لقد افلست! لم يبق لي الا البيت الذي اسكنه. ولكن لسوء الطالع كان عليه ان يدفع اكثر .

جاءه رئيس العمال بعد عدة ايام، وقال له:

– عندي اخبار مفرحة يا سيدي: لم يبق سوى ان تدفع ثلاثة الاف ليكتمل البناء وسيكون اروع برج في البلد.

– 3000 الاف اخرى! ولكن ليس معي شئ! لقد انتهى كل ما عندى.

– ماذا؟ هل تبدأ بناء بناء ولا تكمله؟ هل تبدأ مشروع دون ان تنهيه؟ ألم تسأل عن التكلفة من قبل ان تبدأ؟

– لا، لم اسأل، ولكني افترضت ان ما معي سيكفي البناء.

وضحك رئيس العمال، فلم يقابل في حياته ما هو اكثر حماقة من هذا الرجل!

وتوقف العمل في البرج!.. ولما اكتشف الناس ما جرى بدأوا يضحكون عليه قائلين: “لم يحسب النفقة قبل ان يبدأ!” وصار النصب التذكاري الذي اراده علامة بارزة على حماقته!

وختم استاذ اسعد القصة بقوله:

– “انتما تفعلان الشئ  نفسه.. تفترضان انكما تعرفان ما يريده الله منكما دون ان تسألا عما يريده فعلا!

– او ليس العمل الصالح هو ما يطلبه الله!

الله يطلبك انت! ليس عملك الصالح بل قلبك! فقد قال موسى نبي الله: “تحب الرب الهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قوتك”..

وسأل سمير: “انا لا افهم- لماذا لا تكون اعمالي الصالحة كافية؟”

– ببساطة لان ارميا النبي يقول “القلب اخدع من كل شئ، وهو نجس”، اذن فمن غير المجدي ان تقوم بالعمل الصالح على حين ان القلب من الداخل نجس!” لذلك صلى داود النبي قائلا “قلبا نقيا اخلق في يا الله”

والله يطلب ان يمتلك مشاعرنا الداخلية ليعطينا قلبا نقيا، ويغير ما بداخلنا”

قال عادل: لم يسبق ان سمعت مثل هذا الامر من قبل! لكنه كلام معقول!”

– لماذا لا ترجعان الى بيتكما لترفعا طلبة مخلصة ان يفعل الله لكما ذلك؟ اسألاه ان يمنحكما قلبا جديداّ! فهو وحده الذي يفعل ذلك”

هز سمير وعادل رأسيهما موافقة ، وشكرا الاستاذ اسعد على اهتمامه بهما، فقد لمس اوتار قلبيهما وفكريهما بما قال.

***

“هذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَقْطَعُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ، يَقُولُ الرَّبُّ: أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلهًا وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا. ‏وَلاَ يُعَلِّمُونَ بَعْدُ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ، قَائِلِينَ: اعْرِفُوا الرَّبَّ، لأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ سَيَعْرِفُونَنِي مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ، يَقُولُ الرَّبُّ، لأَنِّي أَصْفَحُ عَنْ إِثْمِهِمْ، وَلاَ أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْدُ”(ار31: 33 و34).