افرومنتيوس #2

مرت الايام وفرومنتيوس لا يكف عن الصلاة من اجل صديقه الذي لا يعرف الى اين اخذوه وماذا اصابه، كما كان يصلي من اجل هذه القبيلة ان يعطيه نعمة فيجد نعمة اكثر في اعينهم. كما يستطيع ان يتعلم لغتهم ليقدم لهم بشارة الانجيل المخلّصة.

اعطى الله نعمة وذكاءا خاصا لفرومنتيوس فبدأ يفهم الكلمات التي يتفوهون بها ويستوعب معناها.. شيئا فشيئا بدأ يتحدث معهم قليلا، وهذا اثار اعجاب افراد القبيلة، وسروا بهذا، حتى الاطفال شعروا بمودته، فكانوا يقتربون اليه ويضحكون معه، اما الامير “ارغاديو” بن الزعيم “اركاديو” الذي شابه اباه في الضخامة فقد صار صديقا حميما لفرومنتيوس وكثيرا ما كان يجلسان يتسامران، ولا سيما ان ارغاديو حاول ان يفهم بعض الكلمات بلغة فرومنتيوس، وقد قرّبت المحبة المسافة بينهما..

في احد المرات انطلق الصديقان الى قلب الغابة معا. كانت ثمة ذئاب تعوي في وسعك ان تسمعها اثناء النهار وفي اواخر الليل تعوي غاضبة، واحيانا تزمجر في صوت عال بالتناوب، وفي كثير من الاحيان كانت تظهر على اطراف منطقة الاكواخ. واخيرا وصلا الى قمة تل حيث كان يمكنهما ان يشاهدا الى اسفل من مسافة بعيدة ، مجموعة من الصخور تشبه عمالقة متحجرين ، تتألق مثل ياقوت اذا ما سقطت اشعة الشمس عليها .

اشعل اركاديو بعض الافرع الجافة. توهجت النيران عندما اشتعل فرع اخر غليظ، فتألق وجه فرومنتيوس وان كانت بقية المكان يكتنفه الظلام.عاون فرومنتيوس اركاديو فغذى الموقد بكميات اخرى من الافرع الجافة. جلس صامتا لبعض الوقت وهو يصيخ السمع لاصوات قريبة وبعيدة. كان الوادي مسكونا يبدو وكأنه مسكونا بالارواح. وفيه مخلوقات لا يزيد حجمها عن حجم حبة الارز، ولكنها كانت قوية وخطرة. كانت الطيور قد عادت الى اعشاشها بينما خرجت الحشرات والحيوانات الليلية من اوكارها وكنت تسمع اصوات بعضها وهو حتى ينط في الماء او يدب في الارض. لكل شئ لغته الخاصة به، العواصف الرعدية وقطرات الندى الصباحية والنمل الزاحف .. لم يحب فرومنتيوس شيئا في حياته قدر حبه للاخرين. كانت النار المتأججة تشبه حياته ، متأججة في اعماقها، له قلب يشتعل حماسا ويحمل نورا ودفئا للمحيطين، وهذه الايام القليلة التي عاشها بين افراد قبيلة النمنم بدت وكأنها جمرات تشتعل وتتحول الى مشاعل لها القدرة ان تبدد ظلام المكان او تبث الدفء في اوصال مرتعشة عانت طويلا من برودة ليلة تكاثر فيها الصقيع.

ان الطبيعة لم تكن يوما هي السبب! ان السبب هو الجهل! السبب هو انه لم تصلهم بعد نور معرفة الله

غشى ذهن فرومنتيوس سحابة قاتمة وهو يفكر في نفسه: لقد عاش افراد النمنم هنا لقرون عديدة وتناقلوا اساطيرا وعادات شاذة كثيرة عن اجدادهم. ان طبيعة المنطقة الموحشة وتضاريسها الصعبة القاسية يتخللها الكآبة، وتتغلغل في كل نسمة تهب عليها روح الشر، لابد انها هي السبب في ان سكان هذه المناطق اضحوا بعد مدة من الزمان شبه الاماكن التي قطنوا بها ، فنجدهم قساة ومكتئبين. ثم تنهد وهو يقول: لا، هذا ما يبدو على السطح، ان الطبيعة لم تكن يوما هي السبب! ان السبب هو الجهل! السبب هو انه لم تصلهم بعد نور معرفة الله، وبشارة الانجيل المحيية. لكن كيف يمكنني ان انقل لهم بشرى الخلاص؟!

مظهر فرومنتيوس الحزين وذهنه الشارد دفع ارغاديو لسؤاله:

– هل انت حزين لانك صرت اسيرا في قبيلتنا؟

– لا، ولكنه لم يستطع ان يشرح له السبب الاخر ، وهو انه فقد اعز ما يملك، وهو كتابه المقدس اثناء غرق السفينة. كتابه المقدس الذي يمثل الغذاء والعزاء له في هذا المكان الموحش.

وفي احد الايام وبينما فرومنتيوس كان يتجول في الغابة يجمع بعض الثمار رأى رجلا كهلا من القبيلة يسند ظهره الى جذع شجرة وفي يده كتاب يقلب صفحاته.. اقترب منه فرومنتيوس وتعرف على الكتاب انه الكتاب المقدس.. تحدث فرومنتيوس معه ليعرف كيف وصل اليه. بدى ان الرجل يريد ان يقول له انه وجده على شاطئ البحر. ترك افرومنتيوس للرجل الثمار التي تعب في جمعها طوال اليوم كهدية.. اراد الرجل ان يرد له الجميل فسأله ان كان يقبل الكتاب؟ تسلم فرومنتيوس كتابه المقدس وبلغ به التأثر ان تساقطت دموعه وعانق الكهل وقبله، وشكر الله الذي لم يحرمه من مصدر عزاءه وغذائه الروحي.

لاحظ اركاديو ان فرومنتيوس يتغيب عن القبيلة وقتا ليس بقليل، فاراد ان يعرف السبب.. وفي يوم تتبعه الى مكان بعيد في الغابة.. ووجده يجلس ويفتح كتابه ويقرأ لوقت طويل ثم يحني ركبتيه ويبسط يداه..

جذب هذا المنظر اركاديو فاقترب من فرومنتيوس المستغرق في صلاته، ولم ينتبه لاركاديو .. لاحظ اركاديو دموع فرومنتيوس وهي تنساب على خديه في صلاته. فاقترب منه واخذ يربت على كتفه قائلا:

– لا تخف يا فرومنتيوس. اننا لم نأكلك، ولن نأكلك يوما لاننا احببناك كما انك صرت واحدا منا.. وقريبا عندما نقتنص شخصا اخر ستشاركنا الاكل والاحتفال.

اراد ان يعرف من ارغاديو ماذا حل بصديقه ديسيوس ، هل اكلوه ام هل بيع عبدا، لكن ارغاديو لم يجبه. وتناهي الى سمعه صوت طائر من بعيد : بومة، يصفها افراد القبيلة انها ام الخراب، وانساب الى مسامعه الصوت من جديد ولكنه كان اقوى من المرة السابقة. كان قد اتخذ مجلسه الى جذع الشجرة مغمضا العينين مشتت الافكار فعلى الرغم من الصعوبات والمشقات تقافز الى ذهنه بعض الخواطر المعزية. فتح فرومنتيوس عينه ليجد ارغاديو يحملق فيه سائلا: ما خطبك؟ هل تعاني من ألم ما؟

– لا، لا شئ. انني في خير. ثم اردف: ” سيدي اركاديو! ان الذي خلق الانسان على صورته ومثاله لا يرضى ابدا ان يأكل الانسان اخيه الانسان.”

– ومن الذي خلق الانسان يا فرومنتيوس؟

الله هو الذي خلق الانسان والحيوان والجماد. خلق كل شئ، السماء والارض والبحر وكل ما في جميعها، لانه يحب جميع الناس.

– اين هو الله الذي تتحدث عنه؟ اه لو رأيناه في قبيلتنا النمنم!

ابتسم فرومنتيوس وقال:

– ان الله الذي احدثك عنه ليس انسان مثلنا .. لكنه روح غير محدود بمكان او زمان.. هو يرانا ونحن لا نراه.. انه يحدثنا من خلال الكتاب المقدس ونحن نتكلم معه في صلواتنا.

وضع اركاديو يده على الكتاب الذي بيد فرومنتيوس وهو يقول:

– لكن، هل هذا هو كتاب الله يا فرومنتيوس؟

نعم، انه كتاب الله العجيب، الوحيد الفريد.

– وهل الله هو الذي كتب هذا الكتاب؟

– لقد كتبه 40 رجلا من رجال الله القديسون.

– وهل الاربعون رجلا عاشوا في قبيلة واحدة مثل قبيلتنا؟

– لا، انهم عاشوا في ازمنة مختلفة . اول واحد من الكتاب هو موسى الذي كتب الاسفار الخمسة الاولى ثم جاء بعده يشوع الذي كتب خبر موته في نهاية سفر التثنية وكتب سفر يشوع وهكذا الثالث والرابع الى الاخير وهو يوحنا الحبيب الذي ختم الكتاب بسفر الرؤيا.

– ياه! قد يكونوا استمروا في كتابته عشرون عاما.

– اكثر من هذا بكثير جدا. لقد استغرق كتابته الف وستمئة عام.

– معنى هذا ان معظم الكتّاب لم يروا بعضهم بعض.

– نعم، لم يروا بعض لهذا السبب ولسبب اخر، هو انهم كتبوه في اماكن مختلفة: موسى كتب في صحراء سيناء، ويشوع كتب في ارض كنعان، وسليمان كتب في بابل، ومرقس كتب في مصر، وبولس كتب في دول مختلفة من اوربا بل ان بعض ما كتبه كتبه في السجن، ويوحنا كتب وهو منفي في جزيرة منعزلة تدعى بطمس.

– حقا انه كتاب عجيب!

– ومن العجيب يا اركاديو ان كل كاتب له عمله المختلف وثقافته المختلفة عن الاخرين. موسى كان عالما وحكيما بكل حكمة قدماء المصريين، وداود كان ملكا، ودانيال كان وزيرا ، وبطرس كان صيادا، ولوقا كان طبيبا، وعاموس كان مثلكم.

– كان مثلنا يأكل الغرباء؟

وفي هذه اللحظة حط عصفور على بعد بضعة اقدام منهما. كان مخلوقا غاية في الجمال، تحيط عينيه هالات صفر فيها مسحة من لون قرمزي، وبريق كالياقوت على جناحيه. غرّد مرة على استحياء وفي رقة ولكنه كان تغريدا مفعما بالحياة. شد انتباههما للحظات، وخطر لفرومنتيوس هذا الخاطر: ان الطبيعة تشبه انسانا قاسيا يخفي في صدره فؤادا رقيقا. ثم اطلق انّة خفيفة وهو يقول:

– لا، لم يكن مثلكم في هذا، ولكنه كان مثلكم يجني اثمار الاشجار، كان يجني ثمار الجميز.

– وهؤلاء عندما كتبوا في اماكن وازمنة مختلفة هل كتابتهم اختلفت ام اتفقت مع بعض ؟

– الكتاب كله منسجم مع بعضه البعض، لا يوجد اي تناقض في موضوعاته، رغم ان 32 كاتبا عاشوا قبل الميلاد..

– ميلاد من؟

– ميلاد المسيح. لقد تنبأوا عنه وعن فدائه للبشر ، كما ان ثمانية كتبوا بعد ميلاد المسيح وسردوا لنا قصة حبه للبشر.. كتاب العهد القديم يحوي 46 سفرا تحكي عن قصة خلق العالم والاباء الاولين و التاريخ القديم لشعب الله، وكتاب العهد الجديد يحوي 27 سفرا تحكي لنا عن حياة المسيح والكنيسة التي اسسها والسعادة الابدية التي تنتظرنا في السماء.

تنهد وتمتم ارغاديو ببضع كلمات. عندما تمعن فيها فرومنتيوس ادرك انه كان يدعو الالهة ان تدرء عنه البلية وسوء الحظ بالتأكيد، حزن فرومنتيوس اذ فكر ان الارواح الشريرة تسكن في اماكن الادغال هذه وتحضهم على هذه الافعال الشنعاء وتدفعهم دفعا نحو الهاوية.

كان الوادي يغفو تحت عباءة الظلام، مكشوفا ومجردا من كل شئ الا من الاعشاب والتربة التي تراكمت عليها اوراق الشجر المتساقطة. نهضا الاثنان ثم هبطا التل معا . كانت ثمة نسمات رطبة تهب و تحمل معها عبق الزهور البرية والاعشاب الطرية والنباتات المزهرة اليهما، طوال سيرهما، حتى وصلا الى منطقة الاكواخ .