تقدمت نحو الباب عربة مزدانة باشرطة الحزب محدثة ضجة كبيرة. تبادل بضع نظرات مع السائق .. ثم صاح به: “هيا، ووثب يستقر على الدكة في الخلف. تحركت العربة وسط هدير المحرك وزمزمات العجلات متجهة نحو شارع “نيفسكي”
وما ان تجاوزت العربة باب المنزل حتى اخذ السيد كرامتش يفرك يديه بحركات متشنجة ، وافلتت منه ضحكة طويلة صامتة هي ضحكة رجل ذي مزاج مرح استطاع تدبير مكيدة موفقة، وهو مبتهج بذلك من اعماق قلبه.
غير ان اندفاعة الفرح هذه قد انتهت بسرعة من وظهر على وجه السيد كرامتش تعبير غريب يفيض قلقا.
وها هوذا رغم رطوبة الجو ورغم الضباب، ينزل زجاج الباب ويأخذ يتفرس في المبنى وقد بان على وجهه الهم. ولكنه ما ان احس ان اندريه يلاحظه حتى تصنع القفه في النفس وتقنع بمظهر الوقار.
جئ اليه بالبذلة فارتداها ، كانت ذات ازرار مذهبة، وصديرة تزينها شرائط ملونة جميلة زاهية الالوان، وعقد على عنقه ربطة من حرير زيتي اللون. وكان هو يرتدي بزته ما ينفك يلقي على حذائيه اللامعين نظرات اعجاب. ثم نظر في ساعة معصمه ثم نظر الى اندرو وقال:
“الساعة 11 ونصف. قلت لك ان هذا الراهب الصغير كان يخدع نفسه.”. ضحك اندريه ساخرا:
– كنا جميعا سنفعل ذلك لو كنا مكانه. ان درجة الحرارة 20 تحت الصفر.
– ربما ذلك الراهب الصغيرمستعد ان يموت ليتمم احتفاله.
**
حالما قرع جرس الكنيسة عاليا. جاء صديق كارول القديم “بول” حاملا حقيبة بها كتب للصلاة. وفي اثره جاءت صوقيا ومعها كيس يه ملابس الخدمة. وتوافد اشخاص كثر الواحد تلو الاخر. بل ها هي عائلات تأتي..
تمتلئ الساحة بالمصلين.
غضون خمسة دقائق تمتلئ الكنيسة.
وقف الاب كارول يعظ. قال:
“في عيد الميلاد هذا العام اظهرتم ان هذه المدينة ليست من دون ايمان. ايها الناس يمكنكم ان تفعلوا اي شئ لمن يمكن ان يكون مناوئا بحسب القوانين او بحسب قوانين التكافل والاستغلال. هذه مدينة الشعب الفخور والحر وليست مدينة ايتام. انتم اولاد الله. هذا ما اعلنتموه بحضوركم الليلة. اعلنتم انكم اولاد الله.
***
التقى الاصدقاء الاربعة: ستيف وصوفيا وجيرسي والاب كارول، في حديقة سان جيرمان بوسط كراكول عشية الاحد. جلس الجميع على العشب الاخضر. ما ان جلسوا حتى اخرجت جيرسي كيسا به لب عباد الشمس كانت قد وضعته في حقيبتها. ومدت يدها الى زوجها فتناول قليلا من الكيس ومن ثم ناوله الي الاب كارول بجواره فتناول هو ايضا بعضا منه وناوله الي صوفيا. اخذ الجميع يستمتعون بالتسالي في صمت حتى قطع حبل الصمت.. صوت بكاء الرضيع. قالت صوفيا وهي تحمل الطفل:
– انه طفل جميل فعلا!
اجابت جيرسي باسمة:
– عندما تنجبين طفلا. سيبقيك مستيقظة طوال الليل مثلي! هل سيكون ذلك قريبا؟
صاحت صوفيا:
– اقرب مما تظنين.
التفت بولو نحو صوفيا ووضع يده في يدها ومن ثم قال وهو يبتسم:
– قررنا انا وصوفيا ان نتزوج في شهر مايو.
كانت جيرسي تهدد الرضيع الذي سكت فجأة، وكأنه فهم ما يقال، فضحكت جيرسي وقالت موجهة كلامها الى صوفيا:
– ارايت؟ جبرييل فرحا ايضا.
– ايها الاب كارول تقبل شكرنا نحن الاثنين.
قاطعهما دخول باولو:
– ايها الاب كارول..
– اه، ماذا بك باولو؟
– لقد سلم 47 نفسه للسلطات. وهو يقول انه الشخص الذي كتب الشعار على جدار الكاتدرائية.
– 47؟
– ايها الاب كارول.
– الى اين يأخذونك.
– لا اعلم ربما بعيدا الى سيبيريا.
– انا فخور بك.
– اشكرك على هذا ايها الاب كارول.
– ستانيس لوف. اسمي ستانزلوف.
– ليكن الله معك ستانيز لوف. ليكن معك.
– اجلس !
في السيارة يرحل.
**
في مساء الاربعاء تصاعد الدخان الابيض، لقد اختاروا بابا جديدا.
كان باولو وصوفيا جالسين امام التلفاز ينصتان للمعلق الذي يقول:
“لقد انتهي مجمع الكرادلة بعد مناقشات طويلة ان يختار الشخص المناسب. وهو الكردينال كارول ليكون بابا روما. وبعد لحظات من التردد، لأن لون الدخان الأبيض لم يكن واضحاً تماماً، تصاعدت هتافات الفرح من قبل الحشد المتجمع في ساحة الفاتيكان وقرعت أجراس كنيسة القديس بطرس لتؤكد أن بابا جديداً تم انتخابه. وانتظرت الحشود المتجمعة في ساحة القديس بطرس وهي ترفع الأعلام وتهتف “أصبح لنا بابا” و”يحيا البابا” على وقع قرع الأجراس، حوالي نصف ساعة لمعرفة اسم البابا المنتخب. والتأخير يعود لموافقة رأس الكنيسة الكاثوليكية الجديد على القبول بمهمته الجديدة، واختيار اسم له وارتداء ثوبه البابوي. وفور اطلالته من على شرفة الفاتيكان، ارتفعت الهتافات في ساحة القديس بطرس تصاحبها أصوات الفرح التي ترحب بانتخاب رأس الكنيسة الكاثوليكية الجديد”.
قالت صوفيا لباولو:
– ما اسعدنا اليوم!
– انصتي عزيزتي، فها هو البابا يتحدث:
اطل البابا قائلا:
“لا ادري ان كنت ساجيد تقديم نفسي بلغتكم. بلغت الايطالية، فاذا اخطأت يجب ان تصححوا لي خطأي.”
قال ستيفن لابيه:
– متى سيستطيع ان يلعب معي؟
– لم يعد بعدفي وسعه ذلك. لقد اصبح بابا روما الان، وعليه ان يقيم في روما.
**
تحدث البابا لسكرتاريته قائلا:
– انني انوي ان ازور المكسيك.
– ولكن لا توجد علاقة دبلوماسية مع المكسيك.
– الحكومة المكسيكية تحارب المسيحية.
– وايضا لم يزر اي ببابا امريكا اللاتينية.
– وبعد المكسيك اربد زيارة بولندا.
– بولندا؟ بلد شيوعي؟
– هل يوجد من يعارض؟
– انه شيوعي؟
– اذن يستحسن بنا ان نسرع.
قال بصوت خفيض:
– انه يتعمد اثارتنا.
نظر اليه نظرة لها معنى وقال:
– علينا ان نساعده لا ان نمنعه.
– يا صاحب الغبطة ، لابد انك سمعت ان المخابرات البولندية ستكتب التقارير عن كل هؤلاء الذين سيشهرون ايمانهم اثناء زيارتك.
صمت البابا
وتابع السكرتير:
– ولكنك تبدو مقتنعا ان ابناء وطنك سيجدون الشجاعة للخروج الى الشوارع.
رشم البابا الصليب على خريطة العالم امامه واجاب على الفور:
– نعم، هذا لانني اعرف شعبي.
**
خلع كرامتش معطفه ونزع قبعته وسلمهما الى الخادم الذي وضعهما على الحامل. جلس الى مكتبه ، بدا على وجهه لونا خاصا، نوعا من الاشعاع المكبوت. تنهد وقال لاندريه وهو يخبط بقبضة يده سطح المكتب:
– لا نستطيع ان نمنعه. انه يحمل جواز سفر قانوني.
جاء صوت المعلق من شاشة التلفاز امامهما:
“حدثت معجزة هنا في المكسيك. لقد تجمع مليوني شخص. طوفان من المصلين في مونتريال. حلوا مكان مياه النهر المألوفة”.
اجاب اندريه بابتسامة ساخرة:
– يا صاحب السعادة، ممن نحن خائفون؟ اذا شئت يا صاحب السعادة..
– اهدأوا . لا تستخفوا ابدا بهذا الرجل. لقد كان خطأ ارتكبته قبل عدة اعوام.
**
بدا كرامتش مفكرا وهو ينصت لنشرة الاخبار. دخل الخادم وهو يحمل طبقا من المحار. واشار اندريه الي طبق اخر وقال:
– ما رأيك في حساء الملفوف والعصيدة؟
اختر لي ، ما تريد، فقد تزلجت قبل قليل وانا جائع. واردف:
– ذلك الراهب نجح في الفوز مجددا.. وصمت برهة وتذكر كلمات الاب كارول له قبل سنوا، فتنهد وقال “ها قد عدنا مجددا. انت الان في المذبح وانا اراقبك. تماما كما كان يحدث طوال تلك الاعوام.
وعبر شاشة التلفاز كان البابا يخطب في الجموع المحتشدة مناديا باسم المسيح وببشارة الله على الارض. كان يقول “هل يستطيع الانسان فهم نفسه او معنى الحياة من دون المسيح؟”
كانت جموع الشعب تصفق بحدة، والاف الايدي مرفوعة تلوح بالاعلام وعشرات اللافتات ترفع مرحبة بالبا. وبدت وجوه الناس وقد غمرتها سعادة فائقة..
كان البابا يقول:
“ساكون حاجا وسازور كل بلد، وكل قارة وبصورة خاصة افقرها. حيث الجوع والحرب. اريد ان اكون اباكم ورسولكم في رحلة . السيد المسيح ليس الرب فقط بل انسان ايضا. وبما انه انسان فهو افريقي ايضا. اريد ان اكون رسول سلام يدافع عن العدالة وعن الفقير والمعدوم. يقول الانجيل مباركون هم المساكين بالروح. اريد ان اكون بابا حاجا يبحث عن راحة السجناء والمرضى لارسخ الابناء والاخوان في الايمان حيثما يعيشون. اخوتي واخواتي، الكوريون، اعجبت بكنيستكم التي بنيت بعد سنوات من الشهادة.. والان اريد ان اتوقف عن الحديث لانكم وقفتم هنا لساعات وساعات”.
عاد كرامتش يتابع كلامه، وهو يعب من كأس الخمر في جوفه:
– ادوار . اريد تقريرا على ما قاله البابا.
وسط هذه الناظر التي تبث عبر الشاشة الصغيرة.. هذا التصفيق الحاد والتلويح بالاعلام و تعليق المعلق.. كل ذلك جعل قلب اندري يتغير، حى انه بدا غير مرتاح. كان يخشى ان يدنس ما تفيض به نفسه الان من مشاعر الفرح والسلام.. لم يرد على امر القائد:
قال كرامتش مكررا اوامره:
– اندريه، عليك ان تعد تقريرا عن..
هذه المرة اجاب اندريه على الفور:
– انا؟ ان هذا مستحيل. على شخص اخر ان يكتب التقرير، وعليه ان يضيف اسما اخر الى القائمة! اسمى انا اندريه اوار نهاسك.
صعقت كلمات السكرتير كرامتش، فصمت لبرهة وهو يحدق له.. وخلال ذلك كان البابا يقول:
“انا هنا لاقول، ان الانسان لا يقدر على حقيقة نفسه من دون المسيح. لذا فان استثناء المسيح من تاريخ الانسان يعتبر عملا ضد الانسانية. وانا ابن بولندا والبابا بولس يوحنا الثاني اصرخ. واطلب منك ايها المسيح ان تهبط روحك علينا وتنعش هذه الارض”.
**
وفي المطار كان اندريه يقف امام سلم الطائرة التي ستقل البابا. وحينما اقترب منه البابا ليصافحه، مد يده وهو يقول:
– يا صاحب الغبطة، هذه حفنة من تراب بولندا لتشعر دائما انك في بلدك.
– شكرا اندريه..
– كيف عرفت اسمي. ليس الحزب هو فقط من لديه استخبارات.
وضحك البابا ومن حوله.
قال اندريه:
– هذه الايام غيرت تاريخ بولندا .. ولقد غيرت حياتي انا ايضا.
قال البابا وهو يربت على كتفه:
– نعم، لقد بذرت بذرة، ولكنك انت من سيساعدها على النمو.
– ولكنك سوف ترحل عنا وتتركنا وحدنا.
– اسمع، قبل عدة اعوام ظننت انني كنت وحيدا ايضا. كنت في العشرين من عمري. وقددفنت والدي للتو. كنت حينها قد فقدت امي وشقيقين لي، وكنت اكسب رزقي في مقلع حجارة وكان النازيون يسيطرون على اوربا. ان كان هناك امر تعلمته فهو ان لا شئ مستحيل عند الله.
حيّا البابا المشيعين وهو يصعد الى السلم:
– الى اللقاء يا اولادي.
ولوح الجميع بحماسة شديدة وتأثر بالغ:
– الى اللقاء ايها الاب كارول.
**
صاح السكرتير:
– يا صاحب الغبطة لن تصدق ما ترى.
– انه الجدار سور برلين.
وفي التلفاز كان المعلق يقول:
ان الصور التي نعرضها عليكم هي جزء من التاريخ. هنا في برلين الجدار الذي قسم المدينة طوال 28 عاما، وكان رمز الحرب الباردة، ورمز الاختلاف بين معسكري الشرق والغرب نراه ينهار تحت ايدي ابناء برلين.
ابتسم البابا.. عاد السكرتير يقول:
– المسألة تحتاج الى شهور وسني. ولكن سرعان ماكان المتظاهرون يطالبون بحرية التنقل بين شطري برلين من دون حواجز، لأن من حقهم زيارة أقربائهم الساكنين في الشطر الغربي من المدينة. وكانت قيادة البلاد تشعر بضرورة الإسراع في تنفيذ هذا الطلب. ومع ذلك لم يجر الحديث عن أي ثورة في ألمانيا الديمقراطية، حتى أنه لم يجر أي حديث بشأن إزالتها من الوجود، ولا حتى عن تغير الاتجاه الاشتراكي في تطورها.
سنشاهد سقوط الحكومات السوفيتية. علينا ان نستدعي لوسيوس ليلخص ما حدث لنا فورا.. ويجب ان نعقد مؤتمرا صحفيا يا صاحب الغبطة.
وفي المؤتمر تحدث لوسيوس:
“ما حدث يوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1989، هو في واقع الأمر سوء تفاهم إداري كانت نتائجه وخيمة.
ففي هذا اليوم قررت سلطات ألمانيا الديمقراطية السماح لكل من يرغب بمغادرة البلاد مؤقتا أو بصورة دائمة، بعد أن يبلغ عن ذلك الجهات المعنية. لم يتضمن نص هذا القرار، إشارة إلى اختلاف حدود الدولتين الألمانيتين وإلى الجدار الفاصل بين شطري برلين، وكان هذا هو الخطأ الكبير، لأن وضعهما الدولي مختلف تماما. الخطأ الثاني في نص القرار، هو في أنه لم يحدد موعد سريانه، لأنه عمليا كان يجب أن يسري ابتداء من اليوم التالي لصدوره.
يجب الاعتراف، أنه بعد الأحداث التي وقعت بجانب جدار برلين، بدأت المظاهرات التي كانت تحت تأثير ألمانيا الغربية، تملي شروطها بشأن التطور اللاحق لألمانيا الديمقراطية باتجاه إزالتها كدولة ذات سيادة.
بعد مضي ستة أشهر فقط، سقطت حكومة المعارضة التي استلمت السلطة بعد الانتخابات البرلمانية في 18 مارس/آذار 1990 ، وأعلن عن توحيد شطري ألمانيا دون إجراء أي استفتاء بشأن ذلك.
– اين صاحب الغبطة؟ يبدو انه اختفى ! اين ذهب؟