يوميات الاب كارول #7

سور برلين

تقدمت نحو الباب عربة مزدانة باشرطة الحزب محدثة ضجة كبيرة. تبادل بضع نظرات مع السائق .. ثم صاح به: “هيا، ووثب يستقر على الدكة في الخلف. تحركت العربة وسط هدير المحرك وزمزمات العجلات متجهة نحو شارع “نيفسكي”

وما ان تجاوزت العربة باب المنزل حتى اخذ السيد كرامتش يفرك يديه بحركات متشنجة ، وافلتت منه ضحكة طويلة صامتة هي ضحكة رجل ذي مزاج مرح استطاع تدبير مكيدة موفقة، وهو مبتهج بذلك من اعماق قلبه.

غير ان اندفاعة الفرح هذه قد انتهت بسرعة من وظهر على وجه السيد كرامتش تعبير غريب يفيض قلقا.

وها هوذا رغم رطوبة الجو ورغم الضباب، ينزل زجاج الباب ويأخذ يتفرس في المبنى وقد بان على وجهه الهم. ولكنه ما ان احس ان اندريه يلاحظه حتى تصنع القفه في النفس وتقنع بمظهر الوقار.

جئ اليه بالبذلة فارتداها ، كانت ذات ازرار مذهبة، وصديرة تزينها شرائط ملونة جميلة زاهية الالوان، وعقد على عنقه ربطة من حرير زيتي اللون. وكان هو يرتدي بزته ما ينفك يلقي على حذائيه اللامعين نظرات اعجاب. ثم نظر في ساعة معصمه ثم نظر الى اندرو وقال:

“الساعة 11 ونصف. قلت لك ان هذا الراهب الصغير كان يخدع نفسه.”. ضحك اندريه ساخرا:

– كنا جميعا سنفعل ذلك لو كنا مكانه. ان درجة الحرارة 20 تحت الصفر.

– ربما ذلك الراهب الصغيرمستعد ان يموت ليتمم احتفاله.

**

حالما قرع جرس الكنيسة عاليا. جاء صديق كارول القديم “بول” حاملا حقيبة بها كتب للصلاة. وفي اثره جاءت صوقيا ومعها كيس يه ملابس الخدمة. وتوافد اشخاص كثر الواحد تلو الاخر. بل ها هي عائلات تأتي..

تمتلئ الساحة بالمصلين.

غضون خمسة دقائق تمتلئ الكنيسة.

وقف الاب كارول يعظ. قال:

“في عيد الميلاد هذا العام اظهرتم ان هذه المدينة ليست من دون ايمان.  ايها الناس يمكنكم ان تفعلوا اي شئ لمن يمكن ان يكون مناوئا بحسب القوانين او بحسب قوانين التكافل والاستغلال. هذه مدينة الشعب الفخور والحر وليست مدينة ايتام. انتم اولاد الله.  هذا ما اعلنتموه بحضوركم الليلة. اعلنتم انكم اولاد الله.

***

التقى الاصدقاء الاربعة: ستيف وصوفيا وجيرسي والاب كارول، في حديقة سان جيرمان بوسط كراكول عشية الاحد. جلس الجميع على العشب الاخضر. ما ان جلسوا حتى اخرجت جيرسي كيسا به لب عباد الشمس كانت قد وضعته في حقيبتها. ومدت يدها الى زوجها فتناول قليلا من الكيس ومن ثم ناوله الي الاب كارول بجواره فتناول هو ايضا بعضا منه وناوله الي صوفيا. اخذ الجميع يستمتعون بالتسالي في صمت حتى قطع حبل الصمت.. صوت بكاء الرضيع. قالت صوفيا وهي تحمل الطفل:

– انه طفل جميل فعلا!

اجابت جيرسي باسمة:

– عندما تنجبين طفلا. سيبقيك مستيقظة طوال الليل مثلي! هل سيكون ذلك قريبا؟

صاحت صوفيا:

– اقرب مما تظنين.

التفت بولو نحو صوفيا ووضع يده في يدها ومن ثم قال وهو يبتسم:

– قررنا انا وصوفيا ان نتزوج في شهر مايو.

كانت جيرسي تهدد الرضيع الذي سكت فجأة، وكأنه فهم ما يقال، فضحكت جيرسي وقالت موجهة كلامها الى صوفيا:

– ارايت؟ جبرييل فرحا ايضا.

– ايها الاب كارول تقبل  شكرنا نحن الاثنين.

قاطعهما دخول باولو:

– ايها الاب كارول..

– اه، ماذا بك باولو؟

– لقد سلم 47 نفسه للسلطات. وهو يقول انه الشخص الذي كتب الشعار على جدار الكاتدرائية.

– 47؟

– ايها الاب كارول.

– الى اين يأخذونك.

– لا اعلم ربما بعيدا الى سيبيريا.

– انا فخور بك.

– اشكرك على هذا ايها الاب كارول.

– ستانيس لوف. اسمي ستانزلوف.

– ليكن الله معك ستانيز لوف. ليكن معك.

– اجلس !

في السيارة يرحل.

**

في مساء الاربعاء تصاعد الدخان الابيض، لقد اختاروا بابا جديدا.

كان باولو وصوفيا جالسين امام التلفاز ينصتان للمعلق الذي يقول:

“لقد انتهي مجمع الكرادلة بعد مناقشات طويلة ان يختار الشخص المناسب. وهو الكردينال كارول ليكون بابا روما. وبعد لحظات من التردد، لأن لون الدخان الأبيض لم يكن واضحاً تماماً، تصاعدت هتافات الفرح من قبل الحشد المتجمع في ساحة الفاتيكان وقرعت أجراس كنيسة القديس بطرس لتؤكد أن بابا جديداً تم انتخابه. وانتظرت الحشود المتجمعة في ساحة القديس بطرس وهي ترفع الأعلام وتهتف “أصبح لنا بابا” و”يحيا البابا” على وقع قرع الأجراس، حوالي نصف ساعة لمعرفة اسم البابا المنتخب. والتأخير يعود لموافقة رأس الكنيسة الكاثوليكية الجديد على القبول بمهمته الجديدة، واختيار اسم له وارتداء ثوبه البابوي. وفور اطلالته من على شرفة الفاتيكان، ارتفعت الهتافات في ساحة القديس بطرس تصاحبها أصوات الفرح التي ترحب بانتخاب رأس الكنيسة الكاثوليكية الجديد”.

قالت صوفيا لباولو:

– ما اسعدنا اليوم!

– انصتي عزيزتي، فها هو البابا يتحدث:

اطل البابا قائلا:

“لا ادري ان كنت ساجيد تقديم نفسي بلغتكم. بلغت الايطالية، فاذا اخطأت يجب ان تصححوا لي خطأي.”

قال ستيفن لابيه:

– متى سيستطيع ان يلعب معي؟

– لم يعد بعدفي وسعه ذلك. لقد اصبح بابا روما الان، وعليه ان يقيم في روما.

**

تحدث البابا لسكرتاريته قائلا:

– انني انوي ان ازور المكسيك.

– ولكن لا توجد علاقة دبلوماسية مع المكسيك.

– الحكومة المكسيكية تحارب المسيحية.

– وايضا لم يزر اي ببابا امريكا اللاتينية.

– وبعد المكسيك اربد زيارة بولندا.

– بولندا؟ بلد شيوعي؟

– هل يوجد من يعارض؟

– انه شيوعي؟

– اذن يستحسن بنا ان نسرع.

قال بصوت خفيض:

– انه يتعمد اثارتنا.

نظر اليه نظرة لها معنى وقال:

– علينا ان نساعده لا ان نمنعه.

– يا صاحب الغبطة ، لابد انك سمعت ان المخابرات البولندية ستكتب التقارير عن كل هؤلاء الذين سيشهرون ايمانهم اثناء زيارتك.

صمت البابا

وتابع السكرتير:

– ولكنك تبدو مقتنعا ان ابناء وطنك سيجدون الشجاعة للخروج الى الشوارع.

رشم البابا الصليب على خريطة العالم امامه واجاب على الفور:

– نعم، هذا لانني اعرف شعبي.

 

**

خلع كرامتش معطفه ونزع قبعته وسلمهما الى الخادم الذي وضعهما على الحامل. جلس الى مكتبه ، بدا على وجهه لونا خاصا، نوعا من الاشعاع المكبوت. تنهد وقال لاندريه وهو يخبط بقبضة يده سطح المكتب:

– لا نستطيع ان نمنعه. انه يحمل جواز سفر قانوني.

جاء صوت المعلق من شاشة التلفاز امامهما:

“حدثت معجزة هنا في المكسيك. لقد تجمع مليوني شخص. طوفان من المصلين في مونتريال. حلوا مكان مياه النهر المألوفة”.

اجاب اندريه بابتسامة ساخرة:

– يا صاحب السعادة، ممن نحن خائفون؟ اذا شئت يا صاحب السعادة..

– اهدأوا . لا تستخفوا ابدا بهذا الرجل. لقد كان خطأ ارتكبته قبل عدة اعوام.

 

**

بدا كرامتش مفكرا وهو ينصت لنشرة الاخبار. دخل الخادم وهو يحمل طبقا من المحار. واشار اندريه الي طبق اخر وقال:

– ما رأيك في حساء الملفوف والعصيدة؟

اختر لي ، ما تريد، فقد تزلجت قبل قليل وانا جائع. واردف:

– ذلك الراهب نجح في الفوز مجددا.. وصمت برهة وتذكر كلمات الاب كارول له قبل سنوا، فتنهد وقال “ها قد عدنا مجددا. انت الان في المذبح وانا اراقبك. تماما كما كان يحدث طوال تلك الاعوام.

 

وعبر شاشة التلفاز كان البابا يخطب في الجموع المحتشدة مناديا باسم المسيح وببشارة الله على الارض. كان يقول “هل يستطيع الانسان فهم نفسه او معنى الحياة من دون المسيح؟”

كانت جموع الشعب تصفق بحدة، والاف الايدي مرفوعة تلوح بالاعلام وعشرات اللافتات ترفع مرحبة بالبا. وبدت وجوه الناس وقد غمرتها سعادة فائقة..

كان البابا يقول:

“ساكون حاجا وسازور كل بلد، وكل قارة وبصورة خاصة افقرها. حيث الجوع والحرب. اريد ان اكون اباكم ورسولكم في رحلة . السيد المسيح ليس الرب فقط بل انسان ايضا. وبما انه انسان فهو افريقي ايضا. اريد ان اكون رسول سلام يدافع عن العدالة وعن الفقير والمعدوم. يقول الانجيل مباركون هم المساكين بالروح. اريد ان اكون بابا حاجا يبحث عن راحة السجناء والمرضى لارسخ الابناء والاخوان في الايمان حيثما يعيشون. اخوتي واخواتي، الكوريون، اعجبت بكنيستكم التي بنيت بعد سنوات من الشهادة.. والان اريد ان اتوقف عن الحديث لانكم وقفتم هنا لساعات وساعات”.

 

عاد كرامتش يتابع كلامه، وهو يعب من كأس الخمر في جوفه:

– ادوار . اريد تقريرا على ما قاله البابا.

وسط هذه الناظر التي تبث عبر الشاشة الصغيرة.. هذا التصفيق الحاد والتلويح بالاعلام و تعليق المعلق.. كل ذلك جعل قلب اندري يتغير، حى انه بدا غير مرتاح. كان يخشى ان يدنس ما تفيض به نفسه الان من مشاعر الفرح والسلام.. لم يرد على امر القائد:

قال كرامتش مكررا اوامره:

– اندريه، عليك ان تعد تقريرا عن..

هذه المرة اجاب اندريه على الفور:

– انا؟ ان هذا مستحيل. على شخص اخر ان يكتب التقرير، وعليه ان يضيف اسما اخر الى القائمة! اسمى انا اندريه اوار نهاسك.

 

صعقت كلمات السكرتير كرامتش، فصمت لبرهة وهو يحدق له.. وخلال ذلك كان البابا يقول:

“انا هنا لاقول، ان الانسان لا يقدر على حقيقة نفسه من دون المسيح. لذا فان استثناء المسيح من تاريخ الانسان يعتبر عملا ضد الانسانية. وانا ابن بولندا والبابا بولس يوحنا الثاني اصرخ. واطلب منك ايها المسيح ان تهبط روحك علينا وتنعش هذه الارض”.

**

وفي المطار كان اندريه يقف امام سلم الطائرة التي ستقل البابا. وحينما اقترب منه البابا ليصافحه، مد يده وهو يقول:

– يا صاحب الغبطة، هذه حفنة من تراب بولندا لتشعر دائما انك في بلدك.

– شكرا اندريه..

– كيف عرفت اسمي. ليس الحزب هو فقط من لديه استخبارات.

وضحك البابا ومن حوله.

قال اندريه:

– هذه الايام غيرت تاريخ بولندا .. ولقد غيرت حياتي انا ايضا.

قال البابا وهو يربت على كتفه:

– نعم، لقد بذرت بذرة، ولكنك انت من سيساعدها على النمو.

– ولكنك سوف ترحل عنا وتتركنا وحدنا.

– اسمع، قبل عدة اعوام ظننت انني كنت وحيدا ايضا. كنت في العشرين من عمري. وقددفنت والدي للتو. كنت حينها قد فقدت امي وشقيقين لي، وكنت اكسب رزقي في مقلع حجارة وكان النازيون يسيطرون على اوربا. ان كان هناك امر تعلمته فهو ان لا شئ مستحيل عند الله.

حيّا البابا المشيعين وهو يصعد الى السلم:

– الى اللقاء يا اولادي.

ولوح الجميع بحماسة شديدة وتأثر بالغ:

– الى اللقاء ايها الاب كارول.

**

صاح السكرتير:

– يا صاحب الغبطة لن تصدق ما ترى.

– انه الجدار سور برلين.

وفي التلفاز كان المعلق يقول:

ان الصور التي نعرضها عليكم هي جزء من التاريخ. هنا في برلين الجدار الذي قسم المدينة طوال 28 عاما، وكان رمز الحرب الباردة، ورمز الاختلاف بين معسكري الشرق والغرب نراه ينهار تحت ايدي ابناء برلين.

ابتسم البابا.. عاد السكرتير يقول:

– المسألة تحتاج الى شهور وسني. ولكن سرعان ماكان المتظاهرون يطالبون بحرية التنقل بين شطري برلين من دون حواجز، لأن من حقهم زيارة أقربائهم الساكنين في الشطر الغربي من المدينة. وكانت قيادة البلاد تشعر بضرورة الإسراع في تنفيذ هذا الطلب. ومع ذلك لم يجر الحديث عن أي ثورة في ألمانيا الديمقراطية، حتى أنه لم يجر أي حديث بشأن إزالتها من الوجود، ولا حتى عن تغير الاتجاه الاشتراكي في تطورها.

سنشاهد سقوط الحكومات السوفيتية. علينا ان نستدعي لوسيوس ليلخص ما حدث لنا فورا.. ويجب ان نعقد مؤتمرا صحفيا يا صاحب الغبطة.

وفي المؤتمر تحدث لوسيوس:

“ما حدث يوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1989، هو في واقع الأمر سوء تفاهم إداري كانت نتائجه وخيمة.

ففي هذا اليوم قررت سلطات ألمانيا الديمقراطية السماح لكل من يرغب بمغادرة البلاد مؤقتا أو بصورة دائمة، بعد أن يبلغ عن ذلك الجهات المعنية. لم يتضمن نص هذا القرار، إشارة إلى اختلاف حدود الدولتين الألمانيتين وإلى الجدار الفاصل بين شطري برلين، وكان هذا هو الخطأ الكبير، لأن وضعهما الدولي مختلف تماما. الخطأ الثاني في نص القرار، هو في أنه لم يحدد موعد سريانه، لأنه عمليا كان يجب أن يسري ابتداء من اليوم التالي لصدوره.

يجب الاعتراف، أنه بعد الأحداث التي وقعت بجانب جدار برلين، بدأت المظاهرات التي كانت تحت تأثير ألمانيا الغربية، تملي شروطها بشأن التطور اللاحق لألمانيا الديمقراطية باتجاه إزالتها كدولة ذات سيادة.

بعد مضي ستة أشهر فقط، سقطت حكومة المعارضة التي استلمت السلطة بعد الانتخابات البرلمانية في 18 مارس/آذار 1990 ، وأعلن عن توحيد شطري ألمانيا دون إجراء أي استفتاء بشأن ذلك.

 

– اين صاحب الغبطة؟ يبدو انه اختفى ! اين ذهب؟

يوميات الاب كارول #6

confessional_1تعالت الضوضاء وتمددت لتنفث اشكالا اخرى من الضجة لا تكاد تخفت حتى تعلو من جديد. فهنا اشكال من خرير محركات السيارات وهناك انواع من الصفير وهناك الهتاف وهناك التصفيق في حماسة. وخلال ذلك كله كانت مكبرات الصوت تعلو بهذه العبارات:

يا سكان كراكول ان المخادع الذي خالف المبادئ والمثاليات يختبئ بينكم . اذا لم يسلم المذنب نفسه للشرطة، فسيعتقل  وسيحاكم الاب كارول ويرحّل للعمل في سيبيريا.

برز من بين اكداس الحقائب حارس في ثوبه العسكري الاخضر المغطي بالغبار واعترض متهددا، وامسك بيده مقبض بندقيته وحاول ان يقبض بيمناه على عنق المتشرد:

قف مكان وتراجع باولو خطوة واحدة الى وراء ونظر الى الحارس مبتسما، وحاول الحارس ان يتخذ مظهر الصرامة وهو ذو الوجه الضاحك ونفخ خديه وفرك حاجبيه وقلب عينيه الناقمين فبدا اشد اضحاكا في جده وصرخ في لهجة قاسية:

انذرتك. الا تحاول دخول هذا المكان.

واجابه باولو رصينا غير مكترث بكلامه:

– حسنا، سوف اخرج.

وما ان فارق الحارس حتى تحلق اصدقائه حوله وصاحوا به:

– هل جننت؟.. هل جننت؟ .. اذا سلمت نفسك اليهم فستعترف باسمائنا جميعا. لا يمكننا ان نغامر. افهمت؟

– انتم محقون. ولكني اذا لم اعترف سيتهم ذلك العجوز المسكين. وهو برئ.

– ولكنه ليس سوى رجل مسن. لا زوجة له ولا اطفال. اما انت فشاب شجاع. نحن بحاجة اليك لتقاتل.

– ولكن لا تنسوا انه برئ. هذه معركة واذا عاني الاب كارول فالشخص الوحيد الذي سيلام هو انا.

– ولكن، هذا ليس عدلا ابدا.

– انه امر ضروري.

– ثقوا بك يا اصدقائي.

– حسنا، افعل ما اردت. ليكن الرب معك 47.

**

في اثناء ذلك كان شاب ساذج الملامح، انه العميل “47” ، تخطط وجهه شطوب حمراء وندوب كثيرة تدل على شجار قديم. يجلس في كرسي الاعتراف، فيما يجلس الاب كارول مقابله خلف حاجز..

حياه قائلا:

– باركني ايها الاب كارول!

اجاب الاب بنبرة وديعة:

– طاب يومك  47

– لقد جئت من اجل.. جئت.. ما اردت قوله هو..

– تابع

تمتم الشاب في صوت خافت:

– لا يزال المفتشون يبحثون عني. اسمعت يا ابتي؟

وصمت الاب لبرهة. ثم قال:

– ولم يبحثون عنك؟

– انا من كتبت على حائط الكاتدرائية بالطلاء.

– اذا يجب ان تعترف انك الفاعل وتسلم نفسك للسلطات.

وعلت ثغر الشاب ابتسامة ساخرة وهو يقول:

– لا ، اعتقد انه يجب ان اعترف انني الفاعل.. ثم اجفل وعاد يقول:

– لا ادري ماذا افعل. ربما يجب ان اعترف ، لكني سأعرّض حياتي الاخرين للخطر.

– في اعماق اعماقك انت تعرف ماذا يجب ان تفعل. حريتك تهمك كثيرا. اليس كذلك؟

– في هذه الحالة يمكنك ان تفعل ما يطلبه منك الاخرون ويمكنك ان تفعل ما يمليه عليك ضميرك. فاذا اخترت الحل الثاني فقط عندها ستشعر بالحرية.

بكي الشاب وصوته يتهدج:

– انا خائف ايها الاب كارول.

– اعرف ذلك يا بني. ولكن كما ترى. انت لا تريد ان تبوح لاسمك لاي شخص ولكن الله يعرفه. ذلك لانك ابنه. انت ابن الملك، وابناء الملوك لا يخشون شيئا.

– لا اعلم ايها الاب كارول. لا اعلم.

**

قوام الاب كارول النحيل ومرونته في مشيته، المشابهة لطيران عقاب فوق الصحراء، جعلته يستأسر الانظار. كانت الدقيقة الاولى اسوأ اللحظات. الاب كارول يخبرهم برغبته في اقامة قداس، رغم حظر السلطات في بولندا ذلك. يحدق فيهم ثم يهتف :

انني احتاج الى مساعدتكم . حسنا.. ما رأيكم ؟

اما الفتى باولو فقد كان مأخوذا بنوبة من الحماسة. فصاح:

انا اؤيدك في ذلك. لكن ذلك عمل خطير. انه بمثابة اعلان الثورة.  ولست اعلم ما اذا كان مناسباذلك الان ام لا. لابد من وجود حشد كبير. يعاني الناس مشاكل كثيرة. ولا ادري اذا كانوا يؤيدون الخروج ام لا. سيكون الطقس باردا جدا. ولكن ما هو واضح ان الجميعهنا في كراكول خائفون ايها الاب، ولا احد يريد ان يقحم نفسه في ورطة.

صاحت جيرسي:

– سيظنون انه فخ.

ابتسم الاب وقال:

– ليس هذا ما يظنه ابناء كراكول. بل هذا ظنكم. انتم مستغرقون في مشاكلكم الخاصة،  وفي خوفكم ، وتعتقدون انكم لا تستطيعون رؤية اي شئ حولكم، باستثناء ما بداخلكم. عندها تنسون من انتم ومهما حاولتم نسيان ذلك او لم تصدقوه، حتى اذا رفضتم التفكير فيه، انتم دائما وابدا ابناء الله.

ثم نهض وارتدى معطفه ومضى.

**

c5cad36bff4da825da5717182fdc14c9_generic

كان الاب كارول يجلس في مكتبه مع بعض الاصدقاء عقب انتهاء خدمة القداس.. جاء باولو يلهث :

– ايها الاب كارول. لقد اعتقلوه. لقد اعتقلوا 47.

ازاح الستارة عن النافذة واشار باصبعه وهو يهتف:

– انظروا. ها هم يأخذونه.

كان 47 يصرخ:

– انا برئ. الا تفهمون.؟؟؟.. انا برئ..

التفت الاب الى باولو:

– شكرا بابو والان اذهب وسوف استدعيك بعد ساعتين.

– ولكن ماذا اذا لم يحضر احد.

– عندها سنحتفل مع السيد المسيح بمفردنا.

قالت جيرسي:

– حاولنا ابلاغه لكنه عنيد.

– يجب ان نخرج ونحتفل معه.

– لا يمكننا الذهاب الان.

– وما الفائدة من خروجنا. اكان لوحده ام معنا فهذا لن يشكل اي فرق.

– بل سيشكل فرقا اليه.

– حتى اذا خرجنا فسيخسر امام كرامتش.

– ربما لا يحتاج الناس الى كنيسة فعلا.

يوميات الاب كارول #5

24823062-red-freedom-inscription-on-brickwall-surface-pattern-as-a-wallpaper-concept-for-designers-background

اطرق يفكر ثم نهض ليبسط ساقيه بعد طول جلوس وخرج يتمشى ويداه خلف ظهره. في فضاء الله سعة. فلماذا تلقون بانفسكم في النار. واخلج صوته الاجش. صب خمرا وراح يعب وهو يقول:

– قررت المجئ شخصيا للتأكد من انك فهمت القرار الجديد الذي اصدرته.

– اي قرار؟

– قرار الاحتفال بعيد الميلاد.

– لكن هذا مستحيل.

– انها ارادة الشعب.

– حق احتفال عيد الميلاد ضد ارادة الشعب. غير معقول!  انا لا اصدق ذلك.

– اولئك الذين يرغبون الاحتفال بهذه المناسبة هم احرار في ذلك. ولكن ليكن ذلك في منازلهم او في كنائسك وليست في اماكن عامة.

– ولكن توجد مناسبات يرتبط الناس فيها ارتباطا وثيقا.

انفجر ضاحكا، ولكز الاب قائلا:

– انت وامثالك يرتبط بها. لكننا لا نريدها ان تعود مرتبطة بالناس بعد الان. نحن على اعتاب سنة 1950 ونريد ان نكون احرارا على الاقل.

– لا. لا. هذا طلب فظيع

kvtbfh3

– انت تخدع نفسك كراميتش.  تدعي انك تدافع عن الحرية، ولكنك تمنع الناس من العبادة.

– لست بحاجة لكي تخبرني ما هي الحرية ايها الراهب.

– اجبني. اليس من حق العمال ان يحصلوا على اجر عادل؟

– بالتأكيد، فنحن الذين..

– ومن حق كل ان يكون قادرا على التعليم وتطوير نفسه؟

– بالتاكيد وبفضلنا نحن تمكنوا من ذلك.

– اليس من حق كل انسان ان يمارس معتقداته الدينية التي اختارها بحرية، هلا اجبتني؟

فقال اندريه بسأم:

– الانسان لا يحتاج الى الخالق. وبالتالي هو ليس محتاج الى اعتناق اي دين.

– انت مخطئ. ويمكنني اثبات ذلك.

فسأل بفضول:

– كيف؟

– انت لم تسمح ببناء اي كنيسة في لاهوتا، لانك مقتنع ان العمال لا يحتاجون اليها.

– سأقيم احتفالا حاشدا في العراء في ساحة لاهوتا الرئيسية.

– هراء.

– عندها سنرى العمال ان كانوا سيؤيدون رأيك ام لا؟

– انت مجنون

– ربما

– ستخرج وحيدا الى الساحة ايها الراهب.

فرد على الفور بثقة:

– لا، سيكون اثنان هناك على الاقل، انا في المذبح، وانت واقف تراقبني.

**

كان الظلام قد ساد بيوت القرية وخنق جميع الاصوات. ونقيق الضفادع يصل خافتا رتيبا من المستنقعات البعيدة.. الا ان منظره كان يدل على القوة والشباب. شأنه في ذلك شأن الجندل الذي يقف راسخا معترضا مجرى النهر. حتى وهو ساكن الحركة هادئ الاسارير تلمح في ذلك السكون علامات الحياة والقوة.

وبعد قليل شق الليل فافاق باولو من غفوته على يد خشنة تلكزه، وقال:

– من؟

– هيا انهض ايها اللعين.

– انتصب واقفا وقال:

– طابت ليلتك ايها السيد.

رفع كرامتش قبعته ومضى يحك انفه ويهتز شاربيه الكثيفان كانهما شاربا قط، ويشبك وراء ظهره كفين اصابعهما ثخينة. قال بصوت اجش غاضب:

– اريد ان اعرف منك من فعل ذلك. لابد انه في العشرين من عمره. لقد كان برفقة 3 من اصدقائه ايضا.

– من فعل ماذا؟

– الكتابة بالطلاء على الحائط.

– هل اشتروا طلاء؟!

– نعم.  لقد اشتروا كل شئ يحتاجون اليه. اشتروا ايضا شريط جمباز. ما اسم الشخص الذي اشترى الطلاء؟

– لا اعرف.

– اسمع. احد اخطائي القليلة هي قلة صبري .وعندما يفقدني احدهم عقلي اقوم بافعال اندم عليها. ولكن بعد قليل..

– لا. ارجوك. اني لا اعرف اسمه ولكن رقمه فقط. هم ينادونه 47. ارجوك لا اعرف شيئا غير هذا.

اشار بيده الى عسكريين واقفين وهو يصيح:

– هيا خذاه من هنا.

 

لا. دعوني..  لم افعل شيئا.

التفت كرامتش الى اندريه ، وفي نظرة متسائلة قال:

– ماذا تنوي ان تفعل؟

– يمكن احتجاز كل من هو في سن العشرين. ويمكن لتجار السوق السوداء ان يخبروني لمن باعوا الطلاء.

– سنحتاج الى اشهر حتى نعثر على المجرم بهذه الطريقة. ونحن بحاجة الى من نعاقبه فورا. ولا يمكننا ان نلوم تجار السوق السوداء.

– نعم، فهذا لن يترك تأثيرا كبيرا على الناس.

يوميات الاب كارول #3

Karol

 

كان الاصدقاء الاربعة يجلسون معا على العشب في صحبة الاب كارول. قالت ماريا وهي تلوي يديها وتشير الى نقطة بعيدة،

“هل لم يسبق ان رأيت غزال من قبل؟”

“قال الاب وهو يبتسم:

لقد رأيت. شاهدته في طبق حساء”.

“ها ها.” ايها الاب كارول، كنت اقول الحقيقة فقط”.

– لكنك افسدت شعر اللحظة. الشعر ليس شيئا بالنسبة الى الالم والحزن.. وكما تعلمين فالشعر هو قول الحقيقة بطريقة لا يمكن ان تنس!

انتابت اناستاسيا نوبة ضحك. وافلحت في ان تنطق اخيرا فقالت له:

– وهل انت لا تشعر بالالم.

– وهما لا يشعران ايضا.

– اتقصد انك تريد قيام ثورة؟

– يجب ان اكون ثوريا. انا مسيحي.

– ولكن أليس الثورة تعني صنع التغيرات. على المسيحيين ان يتجددوا يوميا.

ماذا؟ تجديد؟ .. البولنديين ليسوا بحاجة الى التجديد. انهم بحاجة الى ثورة.

– اتراك تريد الحصول على تغيير شامل دفعة واحدة؟

نظر اليه نظرة حادة ثم اجابه بصوت جازم بعد صمت قصير:

ثورة شعب لا تعني شيئا في مقابل تغيير قلب شخص واحد. انت تريد تغيير بولندا ، فهل تغير نفسك؟.. اجل دعنا نخاف على القلوب، وفي نفس الوقت سيفعل النظام ذلك.. يمكننا ان نفعل ونعجل الامور،  نبدأ في الوثوق ببعضنا البعض.. وسيكون ذلك انتصارا على النظام.

**

ها هي ترى اخر الامر، من خلال نافذة الغرفة، نظرة حزينة كابية يلقيها عليها نهار عكر حائل اللون من نهر الخريف، فتثقل هذه النظرة كثيرا من العبوس. انها في العاصمة بوخارست ، في شارع الدكاكين الستة،  في مسكنها بالطابق الثالث من عمارة كبيرة. تحاول ان توقظها الخادمة دون جدوى .. فلما حدست الخادمة انها مريضة سألتها:

– تريزا! ما بك؟ الست بخير؟

حركت شفتيها الواهنتين ببط شديد دون ان تنطق:

– سوف اتصل بالطبيب بسرعة.

– لا تستدعي طبيبا. بل الاب كارول.

– حسنا. لكنك مريضة؟

deathbed

اردفت تقول وهي تميل عليها:

– انهض. هانذا اتيك بشئ من الشاي.

– نعم، .. اشعر بدوار في رأسي.. حاولت ان تنهض بمساعدة الخادمة وجلست على كرسي . وضعت كوعيها على المنضدة، وضغط رأسه بين يديه. كانت تئن كم دق مسمار في رأسها.

بعد الساعة تقريبا جاء الاب كارول .. كانت ترقد على فراشها و بدا الارهاق الشديد عليها ويظهر ذلك من وجهها المصفر.. حينما حيّاها الاب. فتحت عيناها وقالت ببطء:

– مرحبا ايها الاب كارول!  طلبت من صوفيا ان تستدعيك لانني سوف انجب طفلا. لم ارى والد الطفل منذ شهور. لقد التقينا في احد المخيمات التي ينظمها الحزب .. في احد تلك المخيمات التي يشجعونك فيها على الزواج. يقولون انها تخلصك من تعقيدات البورجوازيين والتنشئة التقليدية الساذجة. وها انا الان مع هذا الطفل الذي.. الذي ينمو في داخل احشائي.  فاذا ابقيته، عندها لن استطيع الاشتراك في الالعاب. لقد كنت اتمرن منذ عدة سنوات حتى استطيع الاشتراك في تلك المسابقات. ماذا يجب علي ان افعل؟

كذلك قالت دون ان يقاطعها الاب ثم راحت تنتحب.

بعد صمت قال:

– عليك ان تقرري ايهما تختارين.. انت عند نقطة تحول مصيرية! وعندما تتخذين قرارك لن تعود الامور ابدا كما كانت. ولن تعودي فتاة كذلك ابدا، فاما ان تكوني اما ضحت بفرصة مشاركتها في الالعاب، واما ان تكوني رياضية ضحت بطفلها.

بعد انصراف الاب كارول تستغرق في تفكير عميق.. تتمنى لو ترتد لحظة الى الوراء. ومع ذلك لم تلبث ان جلست على الفراش بعد هنيهة، ربما لانها اهتدت الى الفكرة المحورية التي كانت تدور حولها تهاويل فكرها المضطرب المشوش. تحاول ان تتمرن ولا تتمكن..  فتستسلم.

وتقول : لا.. وسرعان ما هرعت الى مرآة صغيرة مستديرة كانت موضوعة على منضدة. ان الوجه الذي يتراءى في المراة رث بعض الشئ، عيناها اللتان تشبهان ان تكونا مغمضتين قد تورمتا من النوم. انه وجه من تلك الوجوه الذي ليس لها طابع يميزها، فلا يمكن ان تلفت النظر من اول وهلة. ومع ذلك فقد بدا على صاحب الوجه انها غير راضية عن ه بعد ان تفرست في ملامحها.

ثم كررت:

لا، الحمد لله! لو كان قد حدث لي شئ في الصباح وانا في صالة الالعاب امام المتفرجين لكان امر سخيق مزعج بحق.

اعادت المرآة الى مكانها. ورغم انها كانت حافية القدمين ، ورغم انها ما زالت في ملابس الليل، هرع نحو نافذة غرفتها التي تطل على فناء العمارة، واخذ ينظر ما يجري ما باهتمام شديد.

يوميات الاب كارول 2

Karol

ذلك الصباح الذي يملؤه الجليد والضباب من شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، كان “ادوار” رئيس البلدية في رفقة “كرامتش” الحاكم الذي عينه الحزب لوضع قرارت الحزب موضع التنفيذ. قدم كرامتش للمدينة في زيارة مباغنة لمراجعة الانشاءات التي قرر الحزب اقامتها. بالمدينة ولولا سوء الطالع لكان كل شئ على ما يرام.

 

قال “ادوار” في ارتباك واضح مرحبا بالحاكم:

– اهلا بك، كومبانيون كرامتش. انني ارغب في ان اريك التقدم الحاصل في عملية بناء “اللاهوتا”.

صوّب كرامتش نظره نحو البناء الذي لم يكن قد اكتمل ، وقال في صوت اجش حاسم:

“لا تنس ان الحاكم يتطلع الى رؤية البناء عندما ينتهي العمل به.”

وقعت اجابة كرامتش منه وقع ضربات السوط على الظهر، فقال وفمه يرتعش رعشة تعتري الفم الذي يهم بارتشاف جرعة من كأس ماء متجمد:

“حسنا، سأبذل قصارى جهدي وسأجعل العمال يعملون بشكل اكبر، كومبانيون كرامتش.”

حدق كرامتش ببصره فيه، ثم التفت الى البناء، و ابتسم ابتسامة متغصبة وقال:

“انا متأكد من ذلك.”

***

كان اندرو يقود السيارة، حين هتف بيتر:

– انظروا! لابد انها الكنيسة.

وفي ضوء عمودي انارة ينتصبان في مدخل الكنيسة، رأى فيليب الكنيسة فدمدم يقول لنفسه:

–  هذه اول مرة اقدم فيها الى هذه الكنيسة.

وقالت ماريا:

–  وهذه اول مرة لي اشاهد فيها كنيسة.  ولكن هيا بنا .. لديّ تمرين اليوم بعد ساعتين.

فقال بيتر بصوت جازم على الهدوء:

– الا ينبغي لنا ان ندخل لنصلي اولا؟

قال اندرو:  مهلا يجب الا نغامر. هذه اول مرة نحضر فيها الى هنا.

لكن بيتر تململ وهو نافذ الصبر:

لكن يا شباب. انها فرصة. انا لن افوتها. انها بضعة دقائق.  دعونا ندخل.

دخل الاصدقاء الى الكنيسة وتأملوا للحظات مبانيها الفخمة والعتيقة في ان واحد.

 

وبضجر واضح طلبت اليهم ماريا:

– انا في عجلة. هيا بنا ننصرف.

كان بيتر ينظر الي دون ان يحرّك ساكنا:

قاطعهم صوت يقول في وقار:

“انا اعرف لم جئتم هنا.  انكم جئتم لكي تدفعوا ما يتوجب عليكم دفعه من مال.

اوه! …

“ماذا؟ ألم تشاهدوا راهبا من قبل؟”

قال اندرو:

السيد جونسون يخدع الشرطة مثلك.

– ولكن هذا ليس خداعا. هذا شئ افعله عندما تدعو اليه الحاجة فقط على اية حال اسمي كارول.. الاب كارول. وانتم، ما هي اسماءكم؟

ايها الاب كارول. لن يكشف احد منا عن الاسم الحقيقي لاننا… لاننا لا يمكننا الوثوق بأحد.

قالت ماريا:

– اننا نستخدم اول رقمين من ارقام وجودنا في الجامعة.

وقال بيتر: “الجميع يفعل هذا في الجامعة. انا رقمي 76.

وقال اندرو:

“وانا 84.”

وقال ستيف ماريا: وانا “33.”

واخيرا قال ماريا وهي تنزل حقيبته عن ظهره: وانا “47.”.

اقترب الاب وهو يضع يده على كتف ستيف وقال: “اصبتم.. في الحقيقة لقد كنت اعيش في ايطاليا. ما كنت اعرف ان الوضع سئ هنا الى هذا الحد. يا ترى، هل الى هذه الدرجة لم يعد البولنديون يثقون في بعضهم البعض؟! .. لكنني، على اية حال، اعرف كل فرد منكم!

تبادل الاصدقاء نظرات قلقة، قطعها قول بيتر:

“ماذا تقصد؟”

“انني اعرفكم اكثر مما تظنون. دعونا نرى! .. رقم “47” انت مسئول عن جميع الخدع وانت شجاع، لكني لو كنت مكانك لفكرت مرتين قبل ان اعبث مع الحزب.

“حزب؟”

“ما اردت قوله؟ ذلك الطلاء الذي اشتريته من السوق السوداء. انت تريد ان تلطخ جدران البنايات بشعار معاد للحزب.

“انا لم اشتر شيئا.” وتبادل مع اصدقائه نظرات قلقة صامتة.واظلمت وجوههم بعد ان كانت ترتسم بملامح البشاشة، وبدا عليهم من جهة اخرى انهم لم يستوعبوا بعد المفاجأة.

تابع الاب كلامه:

“76 ” انت رياضية في غاية الطموح. وتتوقين الى الفوز .. ولاجل ذلك اشتريت شريطا من السوق السوداء لكي تتمرني خارج حصص التدريب..

ثم حدق ببصره في ماريا قائلا: “38” انت فتاة خجولة ولكنك مصممة جدا. لقد تمرنت كثيرا جدا حتى قطعت اوتار الكمان. “84” انت رياضي حقيقي ولقد اوقعت نفسك في مشاكل لتحصل على حبل تسلق من السوق السوداء. ولكنك لم تجد احدا يمسك لك طرف الحبل، لانك تذهب دائما الى الجبال بمفردك.. لا تقلق فلسوف نحضر معك يوم الاحد القادم. اليس كذلك ايها الشباب؟ برأيي هناك مساحات كثيرة خالية من الجبال . اعرف طرقات لم تسلكوها من قبل.

قال بيتر وهو يبتسم ابتسامة ضارعة: “ارشدني اليها!

صاحت ماريا مشرقة المحيّا  “وانا ايضا!”

وكرر اندرو ما قاله “وانا ايضا!”

ضحك الجميع فيما يودعون الاب. وقال بيتر مخاطبا اندرو:

سنساعدك على الامساك بطرف الحبل الاخر.

**

keramitch

كراميتش

كان يقف بعيدا بعض الشىء ناظرا ناحية البناء الذي ما زال العمل يجري فيه بدأب. التفت واشار بيده وقال:

“يوجد 400 شقة في كل مجمع من هذا. ولقد صممت حوله سلالم فردية بحيث اذا اراد فرد ان يتحدث الى اخر. عليه ان ينزل من الدرج ويخرج للخارج ومن ثم يصعد الى سلم الاخر. هذا لا يشجع على الاجتماعات الخاصة ومن ثم سيتعلم المواطون ان يجتمعوا اذا اراد الحزب ذلك.

قال الكومبانيون: “ولكن يمكن للعائلات ان تجتمع داخل كل شقة!”

ابتسم ابتسامة صفراء قائلا: “اردت ان اثيرك للتحدث عن هذه النقطة يا كومبانيون كرانتيش. من فضلك اتبعني.

صعد الاثنان الى الطابق الثاني. جال الكومبانيون ببصره في احدى الشقق ثم قال باستنكار:

“شقق غرفها مذرية”.

استسلم للتعليق وقال مستدركا:

“هذا صيح، هذا سيمنع البولنديون من الاجتماعات الخاصة. وسيشجعهم على الخروج. اما اطفالهم فسيوضعون في حاضنات ومدارس وجامعات منذ الصغر.

عقب الكومبانيون معلقا:

“انه عمل ممتاز ايها المهندس! سنعطي هذه الشقق مجانا لكل من يحتاج اليها. وسيترعرع جيل جديد من البولنديين. نساء ورجال متحررين من الطريقة القديمة للنظر الى الاشياء ومنها ..

لم يكمل الكومبانيون حديثه. لكن ادوار تابع كلامه:

“الدين”..

لم يجب الكومبانيون ، بل اشار بيده وقطع حديثه سائلا:

“اه، ماذا يفعل هذا الراهب في موقع البناء؟”.

كان يقف بالاسفل رجلا بزي الكهنة، ويقف حوله 4 من الشباب.

“اه. انه الاب كارول .. انه يتجول هنا يوميا. لقد كان عاملا هنا منذ ايام الحرب .. ”

يبدو ان منظره اثار الكومبانيون، فاخرج يده من جيبه وبها علبة السعوط. اخذ قبضة بين اصبعيه قرّبها الى انفه، ثم قال معطيا اوامره:

“ادوار، اطلب من عميلين ان يعتقلا هذا الراهب حالما يتجاوز الحد المسموح به”.

انتفض ادوار عالما انه يتلقى امرا، لمس جبهته بيده قائلا:

“في الحال، سيدي”.

ثم همس كمن يناجي نفسه: “الرهبان، يخدعون الناس البسطاء. الاقوياء يستغلون الضعيف. الاغنياء يسرقون الفقير. كل ذلك المتاع قديم. وعندما تنتقل الى منزل جديد تتخلص من المتاع القديم. ان افكارهم بالية وقد عفا عنها الزمن. قريبا سيتخلص الناس من سيطرة افكارهم العتيقة.

**

شكرا لكما ”

تأوهت وهي تستعيد في ذاكرتها تفاصيل مؤلمة. كانت الدقيقة الاولى اسوأ اللحظات: لقد عادت من المسرح برفقته مبتهجة، وبيده اجاصة كبيرة، كانت مستغرقة في نشوة تجلس وبين اصابعها بطاقة تطالعها:

سألته وهي تريه البطاقة:

ما هذا؟

لم تتدرب على رقصات الباليه، فتدرك ان حملها يعوقها.

**

وصل اندرو الى المكان المتفق عليه، واذ لمح شعاعا من الضوء ينفذ من خلف احدى الستائر المنسدلة على نافذة من النوافذ المطلة على شارع الكنيسة، اضطرب قليلا. لكن الشارع الذي كان يكتنفه الظلام الا من بعض انوار انبعثت من مصابيح تصطف على جانبي الشارع يفرق بينها مسافات ليست قليلة، جعلت الشارع في اغلبه مظلما. التمعت عيناه بفرح والابتسامة على شفتيه حين رأى رفيقه. نعم، كان ذلك جميلا ، جميلا جدا ومثيرا جدا. وكان هناك ايضا كثير من الاشياء المثيرة، لكن ذلك لا يمكن ان يعبر عنه سوى بكلمات الاستحسان يقولها الرجل لصديقه:

“مدهش 47!”.. ارى انك احضرت الطلاء!”

انتقلت الابتسامة الى شفتا بيتر ايضا وهو يقول بكلمات يملأها الفخر:

“نريد ان نترك تأثرا. ليدرك العالم كله ان البولنديين لا يقبلون بحكم الروس”.

ومد يده وهو يخط بالفرشاة على جدار سور الكنيسة عبارة تقول: “الحرية لبولندا”.