يوميات وحيد #11

baby

يوقظه دوي هائل وعنيف.. من سباته. يفتح عينيه بصعوبة ، مبهور الانفاس، يتصبب عرقا.. ينتابه الاحساس بالضيق البالغ، الجاثم فوق صدره .. من كل شئ وحتى نفسه!.. يصيبه ضعف شديد . يلف رأسه دوار حاد، يفقده توازنه، وهو لا يزال في فراشه! .. ينظر حوله. وزوجته تغط في نومها.. وبطنها المتكور – والذي لم يبل بعد عقب الولادة الاخيرة- يعلو ويهبط مع تتابع انفاسها العميقة! .. وعلى سرير مجاور ، تتكدس بناته الخمس.. المستغرقات في النعاس ، هن ايضا ..

حدّق في ساعته طويلا .. حتى استطاع معرفة الوقت .. على ضوء القمر الشاحب المتسلل عبر النافذة المفتوحة باستحياء.. فيا للغرابة! انها نفس الساعة التي يهب فيها من النوم كل ليلة .. على هذا الدوي، الذي لا يوقظ احدا في الغرفة الا سواه (!!) ..

ظهرت يد الرضيع من تحت الغطاء، صغيرة ووردية اللون واخذت بين الفينة والاخرى ترتجف عند ملامسة خده. ابتسم وهو يشعر بالراحة تغمره فجأة. وللحظة تناول الطفل ووضعه على ذراعيه وهدهده برقة، وارتاح لهذه الفكرة. فهي فكرة رائعة, اب يهدهد ابنه ، انها لصورة قديمة قدم الحياة، ومتجددة في الوقت نفسه طالما ظلت الحياة، عندها شعر وحيد بالدفء يملأ قلبه وبالعاطفة تجتاحه.

عندئذ استيقظ الطفل واول ما استيقظ منه كان انفه الضئيل ، استنشق الهواء، وزفره بدفعات قصيرة وكأنه يعطس، ثم فرك انفه وفتح عينيه. كان لون عينيه يشبه لون الرخام الابيض وتشعان بنور صاف. سمع الدوي مجددا .. في الحال تبخرت فكرة الحياة الشاعرية حول علاقة الاب بابنه وضاعت معها رائحة الام الطيبة. وشعر بنفسه كمن انتزع من غلالة الافكار الحالمة التي احاط نفسه والطفل  بها في خياله.. وضع الصغير في مهده ونهض بحركة سريعة .. عندئذ بدأ الطفل بالبكاء، فرك عينيه بظهر احدى يديه الصغيرتين، فتح حلقومه الاحمر على اوسع مداه، واطلق عقيرته بالبكاء جعل وحيد يجفل فمد يده وتناول الطفل مهدهدا اياه وصارخا بصوت يعلو على صراخ الطفل: “دادا دادا” محاولا اسكات الطفل. لكن صراخ الطفل ارتفع وازرق وجهه وبدأ كأنه سيتوقف عن التنفس، الامر الذي جعل الدم يتجمد في عروقه.. تستيقظ الام فيناولها الرضيع.. ما ان يشعر بصدر امها ويسمع نبضات قلبها حتى يهدأ .. اما هو فانه يترك المنزل ويجلس وحيدا على كومة حطب ، كانت قد رتبت قطع الخشب فيها كمقعد ، كانت تفوح من طبقة الحطب رائحة كالتي تقع من احتراق بطئ. اما جدار المستودع فكانت تضوع منه في هذا الدفء رائحة الراتينج. جلس مادا ساقيه على كومة الحطب مسندا ظهره الى الجدار وعيناه مغلقتان ودون ادنى حراك، استلقى مثل دمية خشبية مثل بينوكيو.. يظل يفكر ويفكر..

وحيد #2

وحيد 2

مرة اخرى راح يرتاد دروب الماضي اذ حملته افكاره الى بلدته الصغيرة، فكل ما يتبينه من خلال الضباب الذي يكفن عينيه كوخا متداعيا سكن به هو وعمته. انه يتذكر كم من ايام قضاها وكل عضو من جسده يرتجف من شدة برد الشتاء القارس ويلتهب من وهج حرارة الصيف. لقد اخذ يقوم بمهام متنوعة كي يعين عمته في صراعها مع الحياة فاشتغل صبي بقال عند رجل غليظ القلب جرّعه كؤوس الشقاء، فلم يمضى وقت طويل حتى انهكه التعب فمرض، ولزم كوخه اكثر من اسبوع. اذ ذاك استخدم البقال صبيا اخر موفور الصحة بدلا منه. ثم عمل في مطعم صغير في احد الاحياء الفقيرة عانى فيه من فظاظة صاحبه وقسوته، فكان ينهال عليه بالصفعات واللطمات لاتفه الاسباب حتى كثيرا ما كان يترك كدمات.

ويتذكر الان حادثا وقع بالامس . ففي ذات ليلة اكتظ المطعم بفقراء الحي وعماله فكان عليه ان يضاعف من نشاطه في خدمة الزبائن. وعلى الرغم من ذلك فقد انصبت عليه لعنات المعلم ونظراته الغاضبة. وفي احد المرات، فيما كان مسرعا بين الموائد حاملا بين يديه طلبات الزبائن، اصطدم بصاحب المطعم الذي كان يتجول بجسده الضخم في ارجائه – يتقدمه كرش بارز، فسقطت منه الصحون على الارض وتحطمت. فلم يحس الا بالركلات تنهال عليه كحمم بركان ولولا تدخل بعض الزبائن لتكسرت ضلوعه. وبمعاونة بعض الزبائن استطاع ان يفر هاربا تحت جنح الظلام وصراخه يملأ الفضاء. انها حياة بائسة قضاها بين احضان الفقر. كان يعود الى الكوخ كل مساء في ساعة متاخرة فيتهالك في ركن منه، على فراش من القش، منهوك القوى، خائر النفس، وكأنه جثة هامدة من غير ان يدري ما يحمله الغد اليه.

وحيد #1

star

كانت صفحة البحر ساكنة تتألق تحت اشعة الشمس الغاربة الذهبية، وراحت الباخرة تمخر عباب البحر بكبرياء وفي كل ثانية يبتعد فيها عن اطلال الكوخ الذي ترعرع فيه في طفولته البائسة وكان يدفن في الزمن الهارب قطعة من ذاته.

اتكأ جميل على الافريز يتأمل في الامواج المتلاطمة في غسق الغروب واستغرق في ذكرياته. انه الان في التاسعة من عمره، وقد خطّ ازميل الحياة على جبينه بعض الخطوط الواهية المتغضنة المثقلة بالاحزان، وسرى في محيّاه شحوب خفيف قلما تشاهده في الوجوه الفتية. خيل اليه انئذ ان وطنه اثمن من كل ما في الوجود من كنوز.. جلس قرابة الساعة مستغرقا في افكاره.. واخيرا مضى نحو قمرته بخطى متثاقلة كمن يجر خلفه متاعب الحياة.

في طريقه التقى بطفلة صغيرة تبكي.. ادرك انها تبكي لانها فقدت والدتها. اخذ يربت على كتفها بحنان بالغ.. تطلعت اليه الفتاة الصغيرة بعينين خائفتين تترقرق فيهما الدموع وقالت بصوت متهدج:

– لقد ضللت طريقي.

فحاول ان يبتسم واجاب بصوت مضطرب:

– ما اسمك؟

فاجابت بنبرة وجلة:

– اسمي مي.

ولكن ها هو الماضي يطارده حتى انه لا يكاد يصدق ان ما يراه امامه هو صورة مصغرة من هانا الفتاة التي احبها ولكنه لم يوفق في الارتباط بها.. وفجأة توقفت الفتاة عن النشيج فجأة. كانت الطفلة قد لمحت والدتها التي كانت تبحث عنها بجزع على ظهر السفينة.

وتشوب محياه مسحة من الاسى.. ما اشد الشبه بين الام وابنتها انها تكاد تكون نسخة مكبرة عن طفلتها بل ما اشبهها بهانا، تلك الفتاة التي احبها من صميم قلبه وكان يحلم بالزواج منها ولكن حال القدر بينه وبينها..