للقس تادرس يعقوب
العبد الغريب:
زار احد الاثرياء الرومان الاسكندرية، واشترى منها عبدا اخذه معه الى بلده. كان العبد غريبا في تصرفاته. كان يعمل بجد واجتهاد.. لم يكل قط من العمل، ولا تذمر من كثرته. كان يعمل في الخفاء ، ويساعد العبيد زملاءه في اعمالهم. لم تفارقه ابدا ابتسامته قط، بل كان دائم البشاشة، لكنه لم يكن مهزارا ولا يعرف الاسفاف. تبدو عليه الرقه واللطف لكن في وقار وجدية. حينما يكون بمفرده لا يراه احد الا وهو يترنم ويتغنى بالمزامير والتسابيح. احبه سيده جدا، حتى جعله رئيسا للعبيد. بل كان يتوق كثيرا الى مجالسته، وينجذب الى حديثه.. مع انه قليل الكلام محبا للصمت.
اما العبيد زملائه، فكانوا يحبونه كثيرا. كان كأب حنون يأتيه الكبير والصغير. يشكي له الكبير الامه، فيجد القلب المفتوح المملوء هدوءا الذي يفيض بالسلام. ويأتيه الصغار اذ يرون فيه ابوة حانية. تعلقت نفوس الجميع به ، اما هو فكان حديثه يدور حول شخص الرب يسوع. يفتح لهم الكتاب المقدس ليحدثهم عن يسوع الخادم المحب، والسيد الذي يقدم ذاته مذبوحا لاجل عبيده. يجمعهم ليصلي الكل معا بروح واحدة. وهكذا تغيرت ملامح وجوههم .. من العبوسة الى البشاشة. ومن حياة التذمر الى حياة الشكر، ومن التراخي والاهمال الى العمل والجد. حلت بركة الرب في القصر، وصار السيد يحب عبيده.. كان يراهم اخوته يجالسهم وينصت اليهم. كان يعتز بهم كاحباء واخوة اكثر منهم عبيدا وخدما، وخاصة ذاك العبد السكندري. فقد كان موضع اعتزازه يفخر به ويقدمه لضيوفه ليروا باعينهم ما لم يسمعوا به او يروه قط بين العبيد والسادة.. انسانا هو بحق رجل الله، سبب بركة لصاحب البيت وكل العاملين في القصر.
+++
وفي احد الايام جاء احد الاسكندريين لزيارة هذا الرجل. دخل القصر وتقابل مع صديقه الغني. اخذ الصديق يروي لصديقه عن عمل العبد الاسكندري في البيت، كيف حول حياته وحياة افراد عائلته وحياة العاملين في القصر الى حياة سعيدة، وكيف جذب الكثيرين الى التعرف على شخص الرب يسوع. فتاق الصديق ان يرى ذلك العبد.. فارسل صاحب البيت يستدعيه.
دخل العبد في حضرة الصديقين.. وبدأ صاحب البيت يقدم العبد لصديقه، لكن الصديق لم ينصت الى كلماته، بل تسمرت عيناه في وجه العبد. بدأ يحملق في ملامح وجهه. صار يفكر في نفسه قائلا: “ترى هل هو؟ كيف حدث هذا؟ وما الذي اتي به الى هنا؟!”
صار الرجل كمن هو في غيبوبة، مسترجعا في ذاكرته حياته الاولى. تذكر ما قد حدث منذ سنوات طويلة في احد الاحياء الفقيرة بالاسكندرية، يوم اجتمع مع اقربائه الفقراء في ليلة قارصة البرد.. وعندئذ بدأ يقول في نفسه: “لقد كنا حول النار المتقدة نستدفئ، حينما قال احد اخوتي الفقراء “لقد اخطأت اليوم اذ قابلت بطرس البخيل، وسألته صدقة، فطردني واخذ يلعنني ويسبني كثيرا”. عقب عليه اخر: “لعلك مجنون، لان المدينة كلها تعرف بخله، لماذا ذهبت اليه”. وقال ثالث: “ما اظن اننا نرى يوما بخيلا يضارع هذا الرجل”. فاجبتهم قائلا: “يا اخوتي .. لماذا نكثر الحديث عن هذا الرجل؟ لماذا ندينه على بخله؟ من يدري ربما يتحول قلب هذا الرجل ويصير سخيا؟ الم يغير الرب قلب زكا العشار ولاوي وغيرهما كثيرين؟” ضحك الكل مستهزئين. اجابني احدهم “انت طيب القلب.. لو انك قد اختبرت معاملته لما قلت هذا! ما اظن ان زكا او لاوي او احدا في العالم بلغت به القساوة ومحبة المال مثل بطرس هذا؟.. قال لي ثان: ان كنت تقدر ان تأتي منه بصدقة فاني اعطيك مثلها”. قال ثالث “وانا ايضا اعطيك..”.. وعندئذ احسست بخجل من كلماتهم ، لكنني تشجعت وقلت لهم “يا اخوتي .. انا لا اقدر ان اعدكم بانني قادر بان اخذ منه صدقة، لكنني … انا لا اقدر ان اعدكم بانني قادر بان اخذ منه صدقة، لكنني اعرف شيئا واحدا. اعرف ان سيدي قادر ان يغير من طباعنا. اخوتي ازروه بصلواتكم .. هو اخونا.. مسكين. صلوا من اجل نفسه.. فهو محتاج ونحن ايضا محتاجون ! الله يرحمنا ويرحمه!”.
وبعدما انتهت السهرة مع اخوتي الشحاذين، ذهبت الى كوخي وجلست مع زوجتي واولادي للصلاة كعادتنا. طلبت منهم ان تكون الصلاة مخصصة من اجل نفس اخينا بطرس ومن اجل نفوسنا. وفي الصباح خرجت .. وفيما انا سائر بجوار مكان الجباية رأيت بطرس الذي كان الكل يدعونه بالبخيل ، واذا به يقف هناك. طلبت منه صدقة ، وللحال تكدر وتغيرت ملامح وجهه واخذ يسبني وشتمني… وقفت لا ادري ماذا افعل. رفعت قلبي لالهي يسوع قائلا: “ايها الرب يسوع . اعن هذا الرجل وضعفي”. وفيما انا على هذا الحال اتفق ان غلامه كان اتيا اليه ومعه طعام الافطار .. فاخذ الرجل رغيفا وقذفه في وجهي. اخذت رغيف الخبز من الارض وقبلته وشكرته ، بينما هو غارق في سبابه وشتائمه.. تركته وانصرفت. وفي الطريق صادفت كنيسة.. دخلت وصليت وقلت: “اذكر يا رب عبدك بطرس فانك انت ابوه.. وانت وحدك الذي تحبه”. وفي اليوم التالي.. لم ادر ماذا حدث .. انما اذكر انه صار يعطي بسخاء انا ورفقائي من الشحاذين.. صار يحبنا جدا .. صار سخيا بلا حدود. وفي يوم لم نجده.. لم نعرف الى اين ذهب؟ .. ومن هذا الذي يجلس مقابلي؟ انه هو هو بطرس… كيف صار عبدا؟!! انني غير مصدق عيناي. ما الذي اتى به الى هنا؟!!
افاق الرجل من تفكيره ثم قام عن كرسيه لا شعوريا وسار نحو العبد وهمس في اذنيه “الست انت هو سيدي بطرس الاسكندري؟”واجابه العبد بكلمات لم يسمعها صاحب البيت. ارتمى الرجل على عنق العبد واخذ يقبله. اما صاحب البيت فقد صار مذهولا. لا يعرف كيف يفسر هذا الذي يدور حوله. استأذن العبد منهما.. واذ ادرك ان خبره سيعرفه صاحب البيت وسينتشر في القصر.. هرب للحال.
ركب مركبا وغادر البلدة الى الاسكندرية. ومن هناك ذهب الى بيت ابو مقار.
العبد في البرية:
في البرية التقى العبد الهارب بأحد الاباء الرهبان. قبّل العبد يدي الاب قائلا: “السلام لك يا ابي”.
اجاب الاب: “السلام ا ابني.. ما الذي اتى بك الى هنا يا ابني؟”
اجاب العبد: “لقد سمعت يا ابي عن اخباركم… فاشتاقت نفسي الى ترك العالم لاحيا متعبدا لذاك الذي احبني، واردت ان اكون بينكم لاتعلم منكم واكون خادما لكم”.
عندئذ بدأ هذا الاب يقول له:
“يا ابني هذا الطريق ليس بالطريق السهل.
اننا نعيش في برية قاحلة ، نعمل بأيدينا من اجل قوت يومنا. نأكل الخبز الجاف والقليل من البقول وبعض الخضروات. حروب البرية صعبة يا ابني. لا تظن انك تهرب من العالم لتجد راحة فان عدونا ابليس لا يغفل ليلا ونهارا عن محاربتنا. الطريق ضيق والصليب ثقيل. كثيرون ا ابني جاءوا وبدأوا.. لكن سرعان ما اكتشفوا ثقل الحرب والجهاد.. واذ كانوا هاربين من الام العالم لم يستطيعوا ان يبقوا هنا.. بل عادوا اليه مرة اخرى”.
كان العبد ينصت الى كلمات الاب الهادئة.. وعندما اكمل الاب حديثه، اجاب العبد.
يا ابني .. لي رجاء عظيم في محبة يسوع ان يعينني.. انني اريد ان احبه”
يا ابي .. ارجوك الا تحرمني .. فانني اريد ان احيا ليسوع.
جربني يا ابي .. وانا واثق من نعمة سيدي وتعضيد صلواتك لاجل ضعفي.
يا ابي ارجوك الا تردني.
واذ رأى الاب عزيمته ومثابرته عندئذ بدأ يسأله عن بلده وعمله وحياته.
+++
وافق العبد ان يفاتح الاب بكل اسراره بعدما تعهد الا بيح بسره لاحد الى يوم انتقاله من هذه الحياة.
بدأ العبد يسرد قصة حياته فقال:
“انني يا ابي كنت عشارا اجمع الضرائب في الاسكندرية. كنت بخيلا .. بخيلا جدا.. محبا للمال الى الغايية!.. كنت اعشق المال.. نعم بل كنت اتعبد له. كنت قاسي القلب ، لا اعرف الرحمة، ولا استجيب لدموع شيخ او توسل امرأة او صراخ طفل! كان اناس يرهبونني.. اما انا فكنت اسهر الليالي اراجع حسابات الجزية وافكر في كيف سأجمعها.. كنت دائم القلق. وبقدر مكا كان القلق يساورني كنت اسعى بكل قوة لتكديس المال .. لكن بلا جدوى.
وفي ليلة لا انساها قط. اطفأت السراج وحاولت النوم .. لكن كما العادة – كانت الارقام تتراءى امام عيني.. مرت ساعة وساعتين وثلاث.. احاول النوم لكن عبثا حاولت. واخيرا في الم شديد تنهدت من اعماقي وقلت “يا رب ااحرم حتى من النوم الذي تتمتع به الحيوانات غير العاقلة؟”
وبعد قليل لم ادر ان كنت قد نعست ام كنت في يقظة واذا بي اجد نفسي جائعا.. واذ مائدة عظيمة تنتصب امامي.. اسرعت اليها لاكل شيئا.. ولكن احد الحراس منعني: وبعد الحاح قال لي: “لك طبق واحد.”
اخذت الطبق فرحا ورفعت الغطاء عنه.. واذ بي اجد نفس الرغيف الذي ضربت به الفقير في ذلك اليوم!
قمت من نومي واخذت ابكي. لاول مرة في حياتي كنت اصلي ومن غير ان يعلمني احد الصلاة.قلت: “يا رب علمني ان احبك. هب لي قلبا رحيما”.. جاء الصباح وكنت قد عزمت الا يكون لي عمل الا الرحمة. خرجت من البيت واسرعت الى الكنيسة. وهناك التقيت بأحد الكهنة الذي تعجب لما رآني والدموع تسيل من عيني. سجدت وبكيت وامسكت بيديه وقلت:
“اخطأت يا ابي الى الهي. احببت العالم من قلبي .. والان صل من اجلي فاني اريد يسوع. اريده وحده”.
بدأ لكاهن يشجعني ويطمئنني وبعدها اعطاني ارشادات نافعة. رفع الصليب وبدأ يصلي علي بقلب منسحق فيما كنت انا ابكي بغزارة.
+++
خرجت من الكنيسة لانفذ ما تعهدته. ذهبت الى السجن ودفعت عن كل من حبستهم بسبب المال ظلما. دفعت ثمن الكثيرون من الاطفال الذي كنت سبب في بيعهم كعبيد.
بحثت عن الفقراء وبدأت اقدم لهم عونا بصفة دائمة منتظمة. ذهبت الى عمل … لاعمل باجتهاد وامان ولا اظلم احدا فيما بعد. اقول الحق يا ابي.. لقد شعرت بسعادة غامرة. حرمت منها لسنوات عديدة.
.. وفي احد الايام وانا سائر في السوق رأيت انسانا يرتعش من البرد، فخلعت ردائي وقدمته له. وفي الليل اذ بي ارى في منامي الرب يسوع وهو مئتزر بردائي. اسرعت وسجدت وقلت له: “كيف تقبل يا سيدي ان تلبس ثوب انسان خاطئ مثلي؟ ومن اعطاه لك؟” .. فقال لي “ما تفعله باحد اخوتي الاصاغر فبي قد فعلت”.. قمت فرحا وقلت: “يسوع يلبس ثيابي.. فلاعطيه كل شئ”.
+++
واذ كنت قد وزعت كل اموالي ولم اجد لدي شيئا .. وبعد تفكير ذهبت الى السوق وبعت نفسي عبدا واعطيت المال لاحد خدامي الذين كنت قد اعتقته وقلت له: “لاجل المسيح وزع هذا المال على الفقراء”.. ولكن جاء احد اصدقائي القدامى من الاسكندرية.. وعندما رآني وقع على عنقي وهو يسألني عن سبب مجيئ هنا .. لم اخبره بشئ . لكنني هربت خوفا من المجد الباطل.
وها انا يا ابي بين يديك. اقبلني لاكون خادما لكم.. وارجوك ان تحفظ سري الى يوم انتقالي. وهكذا كان الى تنيح بسلام. بركة القديس بطرس العابد معنا . امين
قصة قصيرة واقعية وردت في السنكسار تحت عنوان “بطرس العابد” يوم 25 طوبة