كانت تقيم في بلاد اليونان في الازمنة القديمة فتاة اسمها رتيلاء، وكانت تقيم مع والديها واخوتها واخواتها في بيت عند سفح جبل اوليمبوس. كان البيت على حدود قرية، كانت المروج تحيط بها وكان يشق تلك المروج مجرى نهر. وعندما كانت الشمس ترسل اشعتها الدافئة كانت رتيلاء تتمشى على شاطئ النهر.
ولقد كانت رتيلاء فتاة غريبة الاطوار. كان اخوتها مغرمين بالالعاب الاوليمبية الخشنة، وكانوا يشتغلون باجتهاد لكي يصيروا نجارين مهرة. فكانوا يصنعون الكراسي والموائد وغيرها من لوازم البيت. واخواتها كذلك كن يخطن الثياب ويغزلن الخيوط وينسجن القماش وكن يدربن انفسهن ليكن ربات بيوت صالحات. ولكنهن كن يعتبرن كل هذه الاشياء عملا مجهدا وكن يفرحن كثيرا عند انتهاء عمل اليوم ويذهبن للرقص والغناء مع باقي فتيات القرية.
اما رتيلاء – وكانت اصغرهن- فقد كانت تختلف عن اخواتها كل الاختلاف. كانت فتاة حالمة هادئة. وعندما تتمشى على الشاطئ كل يوم كانت تتأمل الفراشات وهي تحصل على طعامها من رحيق الازهار. وكانت اذا ما وقعت اشعة الشمس على تلك الاجنحة تبدو في اشكال جذابة وكأنها صوّرت من عسجد وفيروز وزبرجد وماس،وكان ذلك يملأ رتيلاء بهجة فتطرب وتطفر وترقص.
وكبرت رتيلاء وبدأ والديها يعلمونها التدبير المنزلي، فاعطوها شئ من الكتان لتغزله وبعضا من خيوط الصوف لتنسجها، ولكنها لم ترغب في هذا النوع من العمل. ولذلك كانت تتسلل هاربة الى الحقول. ثم اعطوها نولا وطلبوا منها انتحيك الثياب وان ترسم صورا على القماش وعندئذ تغيرت نظرتها نحو العمل فاحبته وشغفت به جدا. وفي وقت قصير تفوقت على اخواتها لانهن كن ينسجن المناظر العادية بسبب طول مكوثهن في البيت اما هي فقد رسمت الحقول والمروج والعصافير والحشرات والفراشات والاشجار والازهار. وقد ذاع صيتها في كل بلاد ثيثاليا وجاء الناس من كل حدب وصوب لينظرن الى ما كانت تعمله.
ولكن – وللاسف- بدأت رتيلاء يداخلها العجب. كانت تعلم انه لا يوجد من يعادلها. كانت تتوق الى ان يمطرها الناس بكلمات الثناء والمديح وتغضب اذا قل مديحهم. وعندما كانت تسمع ان فتاة اخرى تحسن النسج كانت تسخر منها .. وقد زاد غرورها حتى انها اصبحت تعتقد انه ولا الالهة يمكنها ان تنسج صورا مثل التي تنسجها.
بلغ هذا التفاخر الاعمى اذان اثينا الهة الفنون وهي تغزل في بيتها الساحر فوق قمة جبل اوليمبوس، فرغبت ان ترى بنفسها ما كانت تنسجه رتيلاء. فخلعت سلاحها وثيابه البراق- وكانت تفعل ذلك كلما رغبت في رؤية البشر الفانين- وانطلقت الى بيت رتيلاء في زي عجوز.
دخلت اثينا الى غرفة رتيلاء فرأتها على منسجها وابصرت بعضا من رسوماتها وتفحصتها صامتة، ثم قالت لها:
– انها الوان جميلة حقا! ولكن اشير عليك يا فتاتي ان تتركي الناس هم من يمحونك لا ان تمدحي انت نفسك.
عبست رتيلاء وقالت وهي تشيح بيديها:
كم اود اني واثينا ان نتنافس في ذلك. انا اعتقد انني استطيع ان اتفوق على الالهة نفسها. لن يقوم من هو ابرع مني او ينسج مثل نسجي!
وعند هذه الكلمات تغير شكل العجوز وظهرت اثينا في جمالها وجلالها ونظرت بصرامة الى الفتاة المتكبرة. وقد صعقت رتيلاء ،وبعد برهة استفاقت لنفسها ونظرت لاثينا بعجرفة. فاجابتها اثينا:
ايتها الفتاة المغرورة لك ما تريدين. سنتنافس في النسيج وسيعلم التاريخ من هو الابرع.
بدأتا تنسجان ساعات طوال الى ان حل الليل فغطت اثينا نسيجها الناقص وعادت الى جبل اوليمبوس ثم عادت الى السباق في الصباح التالي واستمرت على ذلك عدة ايام. وكانت رتيلاء تنسج ايضا حتى ارهقت.
ولما انتهيا من العمل جاءت الالهة لتنظر القماش المزركش الذي نسجته رتيلاء وكان بديعا. كانت لوحة تصور منظر لسحب بيضاء تلقي ظلالا من ضياء على ليل مظلم وقد وقفت اشجار السرو بجلال. وفي اسفل الوادي ظهر مجرى ماء فضي جميل كان الرعاة يسوقون اغنامهم بجانبه. ونظرت اثينا واثنت بصوت حلو على عملها ومدحته. ولما فرغت من كلامها التفتت الاثنتان لتفحصا لوحة الالهة وكانت مخبأة تحت غطاء فلما رفع خرجت من شفتي رتيلاء صرخة هي مزيج من اعجاب وحسد وحقد. لقد كانت الصورة لالهة الطبيعة واقفة في الغاب وقد ثبتت عينيها الى الامام وظهرت النجوم فوق البحر. كانت براعة رتيلاء تظهر في الوانها، اما براعة الالهة فتجلت في جمال الصورةالتي بدت تفاصيلها حية. علمت رتيلاء ان كبرياءها كان باطلا فتنهدت بيأس وخبأت وجهها بيديها مدة طويلة ، فلما رفعت وجهها لم تر احدا لان الالهة كانت قد اختفت ومعها رسمها العجيب!
عندما تأملت رتيلاء هزيمتها لم تحتمل ان تكون خاسرة ولو امام اثينا فقبضت على الخيط وجدلته لتصنع حبلا ارادت ان تخنق نفسها به. ولكن اثينا لم تشأ موتها فغيرت جسمها وهي معلقة فصار رماديا جافا وانبتت لها ثمانية ارجل على جانبيها وتكونت عشرة عيون على ظهرها. وبدأت ترسم في الحال، ولكن الالهة حرمتها من المقدرة على وضع الالوان، ولذلك كان نسيجها ذا لون رمادي حقير كريه. وقد تعلقت به تأكل الذباب الذي يصطاده النسيج، ونزل التراب على نسيجها، ولكنها ظلت متعلقة به رغم قذارته. ومع ان قصاصها كان مروعا الا انها استمرت تنظر تلك النظرة المتعجرفة وهي تنسج وتنسج كل ايام حياتها.