لنكولن #3

abraham-lincoln-painting-abraham-lincoln-35948611-2886-3917

-11-

لنكولن صاحب متجر

عمل لنكولن كبائع في متجر، ولكن يبدو ان عمله كبائع في متجر كانت تجربة مميزة.. فقد اشترك لنكولن مع شخص يدعى “بيري” في شراء متجر لبيع الحاجيات. ولكن لا هو ولا بيري كانا يملكان كثيرا من النقود لذلك فقد اقترضا بعض الاموال حتى يتمكنا من شراء المتجر

ولكن هذه التجربة لم تحقق اي نجاح ، لعدة اسباب منها كثرة وجود المتاجر المماثلة في المدينة الصغيرة، ومنها سبب رئيسي يرجع الى لنكولن نفسه، فقد كان لا يقبل على عمله كبائع بالحماس الواجب، فقد كان منصرفا الى قراءة الكتب اثناء عمله بالمتجر.

-12-

في قاع البرميل

كان عدد الزبائن الذين يترددون على متجره يتناقص كل يوم . لذلك فقد كان لنكولن  يجد فرصة اكبر لمواصلة القراءة دون الاضطرار لقطعها حتى يلبي طلب احد هؤلاء الزبائن.

وفي يوم ما جاء زبون .. كان شخصا مهاجرا الى الغرب ومعه برميل قديم يريد ان يبيعه حتى يواصل طريق هجرته. وكان لنكولن لا يريد شراء البرميل، ولكنه مع ذلك اشتراه من الرجل واعطاه نصف دولار ثمنا لهذا البرميل القديم.

وحين اراد لنكولن تنظيف البرميل والقاء ما به من اوراق قديمة، دهش كثيرا عندما عثر على كتاب قديم بقاع البرميل.. وكان كتابا في القانون.. كان كتابا لا يستغنى عنه المحامون.. وكان يبدو كما لو كان يقول للنكولن : “هانذا.. خذني اقرأني.. لقد ولدت لتكون محاميا”.

وقرأ لنكولن هذا الكتاب بكل الشغف وكل التركيز..

وفي احد الايام علم لنكولن ان شريكه بيري قد فر هاربا من المدينة الى مكان مجهول حتى يتنصل من الوفاء بما عليه من ديون.. وكان في وسع لنكولن ان يفر هو ايضا. او يفعل مثلما يفعل الكثيرون من غير الامناء.

ولكنه طلب من الدائنين ان يمهلوه الى حين ميسرة ووعدهم بانه سيرد اليهم اموالهم مهما اقتضى الامر.

وهكذا كلما استطاع لنكولن ان يدخر بعضا من المال كان يدفعها كلها وفاءا لهذا الدين..

ومن الغريب انه ظل يدفع اقساط هذا الدين لسبع عشر سنة متوالية.. حتى انتهى اخيرا من دفع جميع ما كان عليه من ديون.

-12-

لنكولن المحامي

وكانت السنوات التالية من حياة لنكولن سنوات صعبة حافلة بالجهد والعمل. فقد اكتسب محبة الناس واحترامهم. وربما كان نجاحه في الانتخابات واحتلاله مركزا مرموقا في حكومة الولاية يرجع اساسا الى اقتناع الفلاحين والبسطاء به وتأييدهم له، باعتباره شخصا بسيطا مثلهم يمكن ان يتفهم مطالبهم وامالهم ويستطيع ان يرفع صوتهم الى حكومة الولاية..

وعندما نجح في الانتخابات لاول مرة، ذهب الى احد اصدقائه المزارعين وسأله: “هل اخترتني في الانتخابات؟”. فلما اجاب المزارع بالايجاب، قال له لنكولن: “حسنا، انا اريد الان ان اشتري بعض الملابس اللائقة بدلا من ملابسي القديمة.. واريد ان اقترض مائتي دولار!”.

ولانه كان ما زال قليل الخبرة باعمال الحكومة فلم يحاول ان يتقدم او يتولى المناصب الرئيسية القيادية، بل عمل في صمت لخدمة الناس، واكتسب ايضا محبة واحترام زملائه في الحكومة.

وكان انتخابه لاول مرة في سنة 1834 يعتبر فاصلا بين مرحلتين في حياته.. فقد كان نهاية للمرحلة الفقيرة القلقة التي عاشها بين فقراء المزارعين الذين يرحلون من مكان الى اخر سعيا وراء الرزق او ما يسد رمقهم.. كما كان بداية لمرحلة اخرى من الحياة يحتك فيها بكثير من المثقفين واصحاب الافكار الجيدة.

وخلال السنوات الثماني التي قضاها لنكولن كعضو منتخب في الحكومة كان يدرس القانون ليل نهار. وبعد انقضاء هذه السنوات رحل الى مدينة سبرنج فيلد بولاية الينوي. وهناك التحق بمكتب محام كبير وبدأ ممارسة مهنة المحاماة. وكان عمره حينذاك نحو 29 سنة. ولم يكن في جيبه اكثر من 7 دولارات.

برايل

A blind child learning to read braille

“ارسلني.. لانادي.. للعمي بالبصر”(لو4: 18)

ولد في فبراير سنة 1809 في كويفري على بعد 23 ميلا من باريس ومات سنة 1852

منذ اقل من مائة وخمسين سنة في حانوت صانع سروج جلس صغيره عمره ثلاث سنوات يلعب وكانت لعبته المحببة اليه تقليده والده. ما اكثر ما لاحظ والده يشق الجلد السميك الى اشرطة طويلة بسكينه الحاد وكان يعجب كثيرا بقوة والده في هذه العملية. ولاشد ما رغب ان يشق الجلد نظير والده. وبما ان السكين لم تكن في متناول يده فقد استعاض عنها بالمخرز . ووجد قطعة جلد قديمة فامسك بها وحاول ان يجري ثقبا فيها بالمخرز كما كان ابوه يفعل!

كان الجلد قاسيا وكانت قوة الولد محدودة بالطبع ولكنه كان ذا عزيمة فجعل يضغط بالمخرز بكل قوته. وفجأة افلت الجلد منه وطار المخراز من يده الى فوق..واسفاه فقد دخل سنه الحاد في عين الغلام. وقد احضرت زعقاته العالية والده ووالدته الى الحانوت وعلما بالكارثة فحملا الطفل الجريح الى الطبيب ولكنه اعلمهما ان العين ضاعت وان الاخرى ستضبع حتما. وهمذا كان ففي شهور قليلة صار الطفل كامل العمى.

braille-reading

وكانت السنوات التي تلت هذا الحادث سنوات قاتمة على غلامنا المسكين. لم يكن من السهل ان يعيش في ظلام دائم. كانت له تعزية واحدة.. امل وحيد في وعد ابيه انه حالما يبلغ السن يدخل مدرسة العميان وجاء اليوم اخيرا والتحق لويس برايل بمدرسة العميان في باريس وانتهت ايامه المظلمة- وفي المدرسة برهن على انه طالب نبيه مجتهد فاستطاع في وقت قصير ان يقرأ الحروف القائمة التي كانت مستعملة في ذلك الوقت للعميان. كذلك ظهر انه يملك موهبة فذة في الموسيقى. وعندما بلغ الخامسة عشرة نبغ في الموسيقى حتى استطاع بكل سهولة ان يحصل على وظيفة عازف في احدى كنائس باريس. كذلك خطا خطوات واسعة في الرياضيات والجغرافيا والجبر وغيرها حتى انه عين استاذا في المدرسة التي دخلها طالبا منذ سبع سنوات. وهكذا ضمن مستقبله ورأى والده واصحابه المستقبل الباهر للاعمى ابن السروجي.

على ان مطامع برايل لم تقف عند هذا الحد. كان طموحا في اكثر من وظيفة الاستاذية وكمسيحى متواضع كان طموحه الاول ان يستعمل وزناته لا في نفعه الشخصي وانما لخدمة الاخرين. فقد دفعه عمله المدرسي الى الشعور بالحاجة الى طريقة ابسط لتعليم العميان. كان عدد من طلبته العميان يملكون الكفاية للتعلم. كانوا لا يستطيعون قراءة الحروف القائمة الا بصعوبة كبيرة!

وقد جعل برايل يشتغل بطول اناة محاولا اكتشاف طريقة ابسط للقراءة والكتابة للعميان. وهنا تذكر انه عندما عجز عن ادخال المخرز في الجلد فان حد المخرز صنع بروز في الجانب الاخر منه. وهنا نجح برايل في الافادة من اعاقته التي سببها اللعب بالالات ذات الاسنان الحادة. وقد دفعه هذا الى  العودة الى المخرز والجلد لا ليلعب بهما بل ليقوم بعمل هام. وقد استمر ساعات طوال يرسم بالمخرز نقط في مجموعات غريبة. وبهذه الكيفية اخترع مجموعات صغيرة من النقط لتقوم مقام الحروف الابجدية ومزيجا من مجموعات نقط لتكون مقاطع وكلمات. وهكذا استطاع بالتدريج ان يخترع لغة للعميان تمكن تلاميذه من سرعة وسهولة الكتابة.

وقد كانت طريقة النقط التي اخترعها افضل بما لا يقاس من طريقة الحروف القائمة القديمة حتى انه عندما وضح برايل طريقته للجمهور امتلأوا بحماسة شديدة. كان عمر برايل وقتذاك 21 سنة وكانت الطريقة بالطبع فيها الكثير من النقائص ولكن الناس في كل مكان ادركوا ان ذلك الاستاذ الاعمى قد قدم لزملائه العميان نعمة لا تقدر. وتشجع برايل بما لقيه من نجاح في محاولته الاولى هذه فاستمر يكرس وقته وجهده في اصلاح وتعديل الطريقة لتناسب الموسيقى وهكذا يصير قادرا على خدمات اعظم!

وتروي قصة توضح كيف كان برايل كبير القلب. كان احد تلاميذه على وشك ترك المعهد ولكنه لم يجد عملا ولم يكن له مصدر يقتات منه. وقد اكتشف برايل حالته واذ ذاك استقال من وظيفته التي كان يعمل بها واخلاها لطالبه وهكذا انقذه.

وقد سقط فريسة للسل في سن السادسة والعشرين ولكنه لم يكف لحظة عن عمله في تدريس العميان. وعندما مات برايل في سن الثالثة والاربعين حزن مئات العميان باكين صديقا عزيزا فقدوه. وقد كان الاسلوب الذي اخترعه بركة لا حد لها للعميان. ورغم ان اخرين حاولوا طرق اخرى الا ان طريقة برايل لا تزال هي السائدة.

وحيد #5

lone_1420202303

في هذا اليوم كان وحيد يسير بغير هدى في الطرقات.. وفجأة وجد نفسه يقف عند البيت الذي اصبح فارغا من الحياة متهدما. فارتجف وشعر كأن سياطا لاذعة انهالت عليه ، فاسرع الى اقرب عمارة، وانكمش على نفسه الى جانب درجات المدخل حيث قضى ليلته الاولى في وحشة الظلام، ولم يفق في الصباح الا على ركلات بواب العمارة الذي طارده حتى ناصية الطريق.

بعد فترة عثر على بناية قديمة يسكنها مجموعة من الفتيان المتشردين. كان هؤلاء الفتيان ضحية علاقات اسرية مفككة وازواج بلا مسؤولية، هجروا اولادهم فالتهمتهم الطرقات والازقة وانقاض البيوت. كانوا يتضورون جوعا ويقدمون على اي شئ يوفر لهم الطعام. ومن جملتها مغافلة بائعي الخضروات المتجولين في احياء المدينة، وسرقة بضائعهم، بل كان بعضهم يتباهى بمنجزاته البطولية. ومهارته في الافلات من قبضة العدالة. انها حياة مفعمة بالشقاء والتعاسة. كانوا يحيون في العراء فالشتائم والمشاهد الجنسية التي توحي بها اليهم مخيلاتهم اصبحت احاديث ونكات شيقة يتداولونها ويضحكون لها وان كانت مجردة من الحقيقة.؟

من بين هؤلاء الف وحيد اثنين من رفاق الجوع سامر وعصام. كان وحيد قد احتفظ بالمال الذي اودعته اياه عمته، فراح يصرف منه على نفسه وصديقيه دون ان يحمل هما للايام القادمة، كان يبحث كل منهم عن عمل لايام كثيرة ولكن عبثا كان بحثهم. ظلوا هكذا حتى نفذ ما مع وحيد من مال. واضطر الجوع ثلاثتهم لان يضاعفوا بحثهم عن عمل .

خرج ثلاثتهم للبحث عن عمل. حتى عثر على عمل في مكتبة لبيع الكتب القديمة. حينما وقف بباب المكتبة سأله صاحبها:

– ماذا تريد يا فتي؟

– انني ابحث عن عمل.

– لا عمل لديّ. انت ترى السوق شحيح هذه الايام- قل انتاج الكتب وقل ايضا الاقبال على القراءة من الناس.

– لكني احتاج الى عمل.. احتاج الى نقود.. انني اتضور جوعا

كان منظره يستدر شفقة اي انسان مما دفع صاحب المكتبة ان يقول له:

– لا بأس سأتقاسم معك معيشتي. سأعطيك ثمن وجبة طعام كل يوم. و شيئا اول كل شهر، قرابة 3 جنيهات.

– لكن هذا يغنيني عن جوع.

– حسب كفاءتك في البيع، سأعطيك نسبة اضافية من الربح.

– وهو كذلك!

وجد وحيد تسلية كبيرة في عمله. كان بطبعه يحب القراءة. راح يقرأ كثيرا. كما وجد في احاديثه مع الزبائن ، واغلبهم من المثقفين، فرصة طيبة لتحصيل المعرفة والخبرات المتنوعة في الحياة.. وواتته فكرة ان يؤلف كتبا لتكون مصدر دخلا اضافيا له. بعد عدة كانت الفكرة قد اختمرت في عقله فبدأ في كتابة يومياته.

في هذا اليوم استل ورقة وقلما وراح يكتب:

“انا الان امرق بين صفوف الجموع التي احتشدت للحصول على كيلو لحم او علبة جبن.. كثر في هذه الايام احتيال التجار وغش المنتجين. واتهم الناس  الحكومة بالتقاعس عن انصاف المواطنين الغلابة من جشع التجارة. واعلن رئيس الحكومة انه لن يسمح بامتصاص دماء الفقراء، وانه سيفرض رقابة صارمة على مدى الالتزام الاسعار و بجودة المنتجات.

حقا، ليس للفقير في الدنيا والاخرة الا الله. قام الناس في كل العصور بثورات واطاحوا بالحكام الطغاة، فكان الحام الجدد ابشع من اسلافهم. ومنذ بداية التاريخ كان استعباد الانسان للانسان سنة مهما تبدلت التسميات في ايامنا . لم يعرف التاريخ تفاقما للرأسمالية وتحكمها بمصائر الشعوب كتفاقمها اليوم. باسم العمال شنق العمال. وباسم الديمقراطية ذبحت الديمقراطية. وادعوا ان الديمقراطية انواعا وطبقات. الشعب كقطيع الغنم يهيم بلا حول ولا قوة ولا راع. واصبح الجهل ضاربا بجذوره حتى النخاع و استسلم البسطاء للدجالين والمشعوذين وادعياء العلم والدين.

سرى الكذب كالبرق في كل مكان. وتجادل الناس في كل مكان عن الاحداث التي عاشتها البلاد في الايام السابقة فقال البعض انها الثورة- وقال فريق انها انتفاضة. وقال اخرون: كلا، انها لا هذا وذاك انها مؤامرة. وقال المتفلسفين انها شئ لم نجد له اسما مناسبا بعد.

***

و تمضي الايام  ..

وحيد و صاحبيه سامر وعصام ، اللذان وفقا هما ايضا بعد فترة في العثور على عمل. كان ثلاثتهم يعيشون معا. يذهبون الى العمل كل صباح ويعودون في حلكة المساء الى البيت للمبيت، ومن حين لاخر تضج الدنيا حولهم بصيحات الابتهاج و الفرح او تنوء اكتافهم بما يحملوه من عبء العمل.

وجد عم اسكندر في وحيد ثقافة واسعة. فكان يحب ان يناقشه في موضوعات الحياة كلما اتي الى المكتبة ليشتري كتبا، وكان يفعل ذلك مرة كل شهر. كان عم اسكندر موظفا في الحكومة وهو الان تقاعد. لذا كان يرى في القراءة شيئا مسليا ونافعا لقضاء وقته.

في هذا اليوم بادر عم اسكندر بالسؤال:

– قل لي يا وحيد. كيف ترى اوضاع البلد الان؟

– الحياة حلوة ومرة، سماء صافية تغطي صفحتها البهجة وان كانت تمرق بها بينن الحين والاخر غمامة من الكآبة، انها معاناة كبيرة يتخللها اوقات منعشة من الراحة.

– لكن الا ترى معي ان كان كل فريق يراها بمنظوره الخاص . خبراء الاقتصاد يرون ان الحياة اضحت كسادا هائلا هو نتاج وضع اقتصادي متردي، وقال السياسيون انها لعبة خاسرة وهي نتاج فساد سياسي.

– نعم، وانتظر الفقراء ان تنزاح الغمامة يوما،دون جدوى. في كل الدنيا غيرة وحسد ومنافسة ومزاحمة.

ومسح جبينه فجأة وهو يسأل عن امر طالما ارّقه التفكير فيه:

– ولكن لماذا لا ننعم بالرخاء والسلام؟

– لأن الشر يملأ الارض.

– لكن النضال ضد الشر ضروري.

– ناضل اخرين قبلك وزرعوا الحنطة فنبت العلقم بدلا منها.

– ولكن يبقى افراد صالحون في كل مكان..أليس كذلك؟

– لا شك ، لأنه لو خلت الارض منهم لاضحت الارض مثل سدوم وعمورة وآلت الى نفس المصير.

– نشكر الله.ولكن كيف جنيت هذه الحكمة؟

– الايام والزواج.

– وهل انت سعيد في زواجك؟

– السعادة الزوجية وهم . هناك ايجابيات وسلبيات. تفنى الزوجة عمرها لارضاء الزوج ويفعل الزوج نفس الامر لاسعادها. وان لم يفعلا ملّ احدهما الاخر، واصبحا تعساء.

– اريد ان ألتقى قريبا لاستوضحك بعض الامور؟

– السبت يناسبني. يشرّفني ان تزورني.

– اذن سأزورك يوم السبت القادم.

– على الرحب والسعة.