العام القديم والعام الجديد

new-years-resolution

احس العام القديم بعد عيد الميلاد عند الغربيين انه واهن قليلا. و بعد ان ساءت حالته في اليوم التالي ارسل يستدعي الطبيب. وهذا بعد ان جس نبضه قال:

لست مريضا ، ولكنك ترى انك “كبرت”.. وفي الحقيقة – وهنا نظر الى التقويم وقال:

ارى من واجبي ان اخبرك ان ايامك معدودة!!

قال العاام القديم: “ايها الطبيب، ماذا سيحدث للعالم بعد ان ارحل؟”.

واجاب الطبيب: “ان هذا يتوقف على العام الجديد”.

وجلس العام القديم مدة طويلة في كرسيه صامتا ومفكرا – ثم نادى الخاتم وارسله برسالة الى العام الجديد الذي يقيم في الشارع القريب يرجوه بالحاح ان يتفضل بالزيارة لانه ينبغي ان يتحدث معه في امور هامة جدا!!

ولكن الخادم عاد عاد وحده وقال ان العام الجديد لا يمكنه المجئ!!

وسأل العام القديم: “هل رأياه؟”

فاجاب الخادم: “كلا، ولكنه ارسل يقول ان الطبيب اعطى اوامر مشددة ان لا يترك البيت لعدة ايام.. وقال ان خروجه قبل اول يناير يقلب الدنيا كلها رأسا على عقب.

وارتبك العام القديم.. ولكن ارتباكه لم يطل اذ طرق ذهنه فكرة فقام وجلس على مكتبه، وامسك ورقة وقلما وجعل يكتب:

صديقي العزيز.

بعد التحية – مع انه لم يسبق لي ان اتشرف برؤيتك واظن اني لن انال هذا الشرف . فاني اتجاسر واكتب لك لان مستقبلك يهمني كثيرا!

وحتى يمكنك ان تقدّر عمق اهتمامي بك. اخبرك ان في نيتي عندما اذهب ان اترك كل مالي لك!

والان اذا سمحت لي ارجو – بحق كبر سني عنك – ان اقدم لك نصيحة مؤلفة من اربع كلمات .. “لا تضيع يوما واحدا”.

عندما بدأت الحياة بثلثمائة وخمسة وستين يوما. قلت انها ثروة كبيرة لا نهاية لها ولكنني الان ارى – واسفاه – ان هذه الثروة على وشك الانتهاء.وقد علمت انه سيكون لك ثلثمائة وستة وستون يوما! ومع اني لا افهم سبب ذلك فانا متأكد ان لا احد يتذمر من ذلك اذا احسنت استعمال هذه الايام. انا واثق انك ستبدأ بداية طيبة. ولكن ما ارجوه هو ان تستمر في ذلك الى المنتهى!

وهنا صمت العام القديم قليلا وهو يفكر في الايام الثمينة التي طارت !

وعلى حين فجأة ذكر شيئا ، فقام عن كرسيه ، وجعل يقلب في اوراقه حتى عثر على رسالة قديمة فقرأها متمهلا . ثم جلس وعاد يكتب مرة اخرى:

قرأت الان رسالة ارسلها اليّ سلفي قبل مجيئ. وقد اخبرني فيه انه بالقرب من نهايته اظلمت ايامه باهوال الحرب – واودعني مهمة اقامة السلام في العالم. ولكني لم استطع ان اقوم بكل ما املت ، ولذلك اترك الباقي لك..

لا تخف ولا يسقط قلبك. يوجد اناس مدهشون في كل مكان. ان دول العالم تتطلع اليك منتظرة ان تصير هذا العالم احسن مما هو عليه. وفي الختام تقبل خالص تحياتي واماني الطيبة من اجلك.

صديقك المخلص

العام القديم

===

موضوعات ذات صلة:

عند ابواب العام الجديد

قصة الاورج العتيق

دعوة للسلام

المسيح في جنازة

-1-

تزوجت فتاة من شاب، واقيم احتفال كبير. العرس فرحان، والعروس متهللة، والنساء يزغردن، .. ومرت سنة فاذا بالزوجين يصبحان والدين، اذ وضعت الزوجة مولودا ذكرا، كان قرة عين لها ولزوجها وابتسمت الحياة لها.. ولكن هناءها لم يطل، فقد جاء يوم فقدت فيه زوجها واصبحت ارملة، فانفتح جرح في قلبها ، وبكت يومها ما شاء لها من البكاء،وكيف لا تبكي المرأة زوجها! وكان كل من يراها باكية تنفتح ميازيب عينيه فيبكي معها.. آه من الموت الذي لا يرأف باقدس روابط الحياة، فيأخذ المرأة من زوجها، ويأخذ الزوج من زوجته..

ولكن المرأة تعزت اذ كانت ترى زوجها في صورة ابنها ، وعاشت الارملة لتكون اما بعد ان كانت زوجة ايضا. كان العالم كله لها ذلك الابن الوحيد. ليس لها شئ اخر سواه. وكل ما كانت ترجوه في الحياه هو ان تراه، ويكون هو من يغمض عينيها عند الممات، وان يقف على قبرها، وان كان الموتى يحسون فستستريح عظامها في قبرها اذ وقف هو عليه.. وقد كنت تراها تبكي وتضحك وتصمت وتتكلم في وقت واحد تبعا لمرور الصور المختلفة لابنها في ذهنها – وربما تحدثت اليه طالبة ان يكفنها وان يذرف على قبرها دمعة واحدة فقط لئلا يضر عينيه بالبكاء.. وكان هو يجيب طلباتها بالقبلات، وربما انتهت احاديثهما بالدموع كما ربما انتهت بالضحكات.. كل هذا واكثر منه ربما تم حرفيا في بيت الارملة!

-2-

وفي احد الايام جاء الموت الى البيت ولكنه قدم الدعوة للابن لا للام. جاء في صورة مرض ففزعت الام وجالدت دموعها وجعلت ترقب ولدها وهي تؤمل انه سيقوم – يا للحب عند الام! ان له جانبين: من الجانب الاول يبدو قلقا خائفا مضطربا يتلفت بانزعاج الى ارتفاع الحرارة.. هو مريض.. هو متألم.. حالته ليست متقدمة.. اخشى … ومن الجانب الاخر كان حبها الكبير يستبعد الموت. لا يمكن ان يموت.. كلا. الله ليس قاسيا ليمزق قلبي مرتين. آه! لقد مزقه يوم اخذ زوجي ولقد كان جرحا هائلا مخيفا مرعبا وكان الليل المظلم يحدثني بمخاوف. لقد مزق قلبي مرة. الا يكفيه ذلك؟! ليمزق القلوب مرة واحدة. ليترك الارملة تنعم بابنها! .. كان حبها يقول .. كلا لا يمكن ان يموت.. اني افديه بحياتي. حياتي ملك ابني. اني اضعها من اجله بسرور. واشتد بها الحب فاذ هي ترى نفسها تحارب ملاك الموت. بل امتد الامر لترى نفسها تحارب ، او على الاصح تجاهد مع الله (في الصلاة) لاجل ابنها!

ورأى الله تلك النفس المتألمة ،ورأى قلبها الملتاع. رأى دموعها السخينة التي بللت سريرها بل التي انهمرت لتبلل الارض لانها جلست على الارض بجانب سرير ابنها..

رأى الله كل ذلك . ولكنه لم يشفق – حسب قول المرأة- لم يشفق بل مد سكينه الى قلبها ومزقه بقسوة عظيمة. لقد حزنت يوم موت زوجها ولكنها اليوم تسخر من ذلك الحزن. لانه ما هو جرح الامس بالنسبة لجرح اليوم- ومدت الارملة يديها المرتعشتين الى جسم الابن الحبيب واذ هو بلا حياة. لقد اختطف من بين يديها.. نعم مات. مات الابن الوحيد. مات ابن الارملة. لنجلس نحن الذين بلا حول ولنبك معها . لنبكي مع الارملة الثكلى. ما امرّ الموت!

-3-

خرجت الارملة وراء نعش ولدها لتضع كل ذلك الحب في التراب.. لا اعلم ان كانت عيناها قد ذرفتا دموعا،ولكني اعلم ان قلبها قد عصر عصرا. كانت الارملة تبكي بقلبها ولو ان عينيها جمدتا.. وخرجت المدينة كلها وراءها. كان كل قلب يعطف عليها. كانت دموع كثيرة تملأ الوجوه. تنهدات كثيرة سمعتها نايين ذلك اليوم.. وكانت الارملة تحس ذلك العطف من الجميع الا من شخص واحد. كان كل قلب معها الا قلب واحد.. وكانت هي مستعدة ان تستغني عن عطف الجميع وقلوب الجميع لو انه “هو” عطف عليها، ولو ان قلبها كان معها. نعم فقد شعرت الارملة ان الله اغلق بابه عليها وطردها. احست انه صد صلاتها ولم يرأف بدموعها ومن يعلم ما تلفظت به المرأة خطأ في حق الله..

لكن هل قسا الله حقا عليها؟! هل اغلق بابه؟ لقد ارسل الاب ابنه ليحضر الجنازة.. واذ ما حضر ابن الله جنازة استحالت تلك الجنازة فرحا.. وهذا هو ما حدث.. وصل يسوع الى باب نايين. ولما رأى المرأة تحنن عليها – وما هو التحنن؟ انه البكاء .. انه بكاء القلب.. ويمكننا باطمئنان ان نقول ان السيد بكى لما رأى تلك المرأة باكية.. لقد بكى الاخرون وبكى هو.. لكن شتان بين بكاء وبكاء. اما بكاؤهم ففيه كثير من الانانية. انهم يبكون فزعين لانهم يرون في تجارب الاخرين تجاربهم. واحيانا في بكاء البعض كثير من النفاق اذ يبكون لانهم يطلون –من عليائهم- على البائسين.. ويبكون دون ان تتأثر قلوبهم حقا للحزين.. دموعهم لا تجدي.. اما هو فانه يبكي من قلب محب منكر لذاته مشترك مع المتألمين.. ودموعه بلسم يشفي القلب الكسير!

قال المسيح للارملة: “لا تبكي”، وهي الكلمة التي لا يزال يقولها لكل حزنه فاذ بحزنه يتلاشى!

-4-

لو ان القصة انتهت عند هذا الحد لكفى. لا شك ان التعزية ملأت قلب الارملة. لقد كانت ترى الحياة في تلك الاام التي تقضيها على الارض. ولكن تلك الدموع التي ملأت وجه المسيح. وتل الكلمات التي نطقتها شفتاه لها معنى جديد من معاني الحياة رأته بعين ايمانها. رأت الحب الخالد الذي لا يموت ولو مات الجسد.. فتعزت الارملة..! ولك المسيح اضاف على بركة حبه بركة اخرى. تقدم الى النعش ولمسه، فوقف الحاملون. فقال: ايها الشاب لك اقول قم. فجلس الميت وابتدأ يتكلم فدفعه الى امه (لو7: 13) ولكم ان تتصوروا كيف استحال الحزن الى فرح عظيم..

وحيد #7

silent_as_the_grave_by_boodie

استيقظ وحيد هذه الليلة على انين خافت يتلوى في ظلام الكوخ فخفق قلبه الصغير، وهتف ينادي عمته، عمّ الكوخ صمت عميق، ثم ما لبثت الانات ان اخذت تتفاقم وتزداد عمقا ورهبة مع كل دقيقة تمر وكأنه نداء الموت. وقف الى جانب عمته متسائلا:

– نعم يا عمتي انا هنا.

– اضئ القنديل يا ولدي.

نهض وحيد واضاء القنديل الموضوع فوق منضدة قديمة في زاوية من الحجرة، فتراقصت ظلاله وكأنها اشباح هائمة. عادت عمته تدعوه من جديد:

– وحيد تعال يا ولدي.. اعطني يدك. مسكين انت يا ولدي. سأتركك وحيدا في هذه الدنيا. انني في طريقي الى القبر، وليس في وسعي ان اؤجل القضاء المكتوب. ان الحياة تنسل من جسدي لحظة بعد اخرى يا بنيّ.

– عمتي عمتي. لا تتركيني وحدي، اني خائف!

وتكوّر الى جوارها. ثم انحنى على وجهها ولثم جبينها وهو يقول بلهجة مؤثرة وصوت يخالجه نشيجه:

– لا اريد الصرة. اريدك انت!

– خذ الصرة لاني لا استطيع ان احملها الى القبر. خذها يا بنيّ لتعينك على صروف الدهر.

اطاع وحيد وتناول الوحيد الصرة من يدها الواهنة، ومن غير ان يتفوه بكلمة.

فجأة انّت انينا خافتا وقالت بصوت متقطع:

– وحيد دع عيناي تشبعان بمرآك لاخر مرة.. اني اموت.

وفي لحظات خوفه هذه، خيّل اليه ان شبحا انتصب امامه، شبحا ذا انياب حادة، وعيون حمراء ينطلق منها الشرار، يريد ان يلتهمه، فتراجع الى الوراء مذعورا، وفي اثناء ذهوله العميق راح ينادي عمته فلم يجبه سوى عويل الرياح.

***

امام القبر وقف المشيعين واجمين، بدا له الجميع حزين وكأن كل هؤلاء انعكاسا في المرآة له هو نفسه.. عندما تفرق الناس ظل وحيد ذاهلا امام القبر. بدا الطقس له باردا في عالم اكتنفه ليل حالك. وقف جامدا كأنه نصبا تذكاريا نحت من صوّان. انه لا يريد ان يغادر المكان ابدا. لقد قضى طفولته مع عمته التي اصبحت بمثابة والدته، ولن يفارقها الآن. انه سيمكث الى جوارها الى ان يواريه الثرى. انه لا يستطيع العيش بدونها، وخير له ان يموت الى جوارها.

سمع صوتا خفيفا يناديه، واحس بيد حنون تربت على كتفه، فاستدار ببطء وتطلع حوله بعينين هامدتين حزينتين، فلاح له محيّا الخالة ليلى صديقة عمته التي تقطن الى جوارهما، ونقلت الريح صوتها الي مسامعه:

– تعال يا بني، لا يمكنك ان تظل واقفا عند هذا القبر.. تعال معي واقض يومك في منزلي.

وامسكت بيده وقادته الى خارج المدفن.

تردد في بادئ الامر فهو يريد ان يخلو الى نفسه، لعله في استعراض ذكرياته يقوم بعملية تطهير ذاتية تسعفه على تمزيق تلك الصفحة الكئيبة من حياته. فهو ما انفك يعيش في دوامة الماضي لا يستطيع الهرب منها. حاول جهده ان يتفاداها ويعقد معها هدنة، ولو مؤقتة، ولكنها ابت عرضه، وتقدمت بكل ما تدججت به من اسلحة فتاكة..

بائعة كبريت

في ليلة عيد رأس السنة، حيث تتساقط الثلوج، والجو القارس يعم الشوارع، كانت هناك طفلة صغيرة مسكينة عارية الرأس، فقدت حذاءها القديم الكبيرالذي استعارته من والدتها بينما كانت تسير في الشارع، ، وأكملت سيرها حافية القدمين، كانت هذه الفتاة الصغيرة تجوب الشوارع، وتسير فيها ؛ لكي تقوم ببيع أعواد الثقاب (الكبريت) آملةً أن يشفق عليها أحد ما، ويشتري منها، ولكن لم تصادف ولا حتى شخص واحد، حيث كانت تشعر بالبرد، ومعدتها كانت خاوية، وحبات الثلج تتناثر على شعرها الطويل الأشقر، وعندما أحست الفتاة بالتعب، جلست في زاوية بين منزلين،

أخذت تسترق الأنظار من النوافذ، وتنظر إلى الناس الذين يحضرون طعام العيد، ولم تكن تستطيع الرجوع إلى منزلها، فقد تتعرض للضرب من قبل والديها ؛ لأنها لم تأت بأي قطعة نقود، وعادت خاوية اليدين، تجمدت يدا هذه الفتاة الصغيرة ؛ بسبب البرد الشديد، فقامت بإشعال عود ثقاب، وأحاطته بيدها حتى تشعر بالدفء، وعلى الضوء الخافت من عود الثقاب هذا، تراءى لها بأنها جالسة أمام مدفئة كبيرة حديدية، والنار تشتعل فيها ؛ فينتشر الدفء ويعم المكان، فمدت ساقيها ؛ لتدفئهما، لكن عود الثقاب انطفئ، واختفى ما رسمته أمامها من أحلام، وبقي طرف عود الثقاب مشتعلاً، فأشعلت به عوداً ثانياً، فاشتعل وأضاء ما حولها ؛ فتراءى في مخيلتها مائدة طعام، عليها ديك رومي مشوي تفوح منه رائحة زكية، ثم انطفأ اللهيب، فأشعلت آخر، فتخيلت نفسها جالسة تحت شجرة ميلاد، أجمل بكثير من التي امتلكها جيرانها في السنة الماضية، ثم انطفأ عود الثقاب، ووجدت نفسها تنظر إلى النجوم المتلألأة في السماء، وفجأة سقطت إحدى النجمات من السماء راسمة خطاً من الشهب، فقالت بينها و بين نفسها: بأن أحدا قد مات، لأن جدتها العجوز كانت تقول لها، إذا سقطت نجمة، فهذا يعني أن روحاً تصعد إلى السماء، ثم أنارت عود ثقاب آخر، فتخيلت جدتها واقفة وسط الأضواء، راضية سعيدة،

كانت جدتها حنونة، وتعامل الفتاة الصغيرة معاملة رقيقة، وما إن رأتها الصغيرة حتى صرخت : جدتي، جدتي، خذيني إليك قبل أن ينطفئ العود، إني أعلم أنكِ ستختفين، كما أختفت المدفئة، والديك الرومي، وشجرة الميلاد، وسارعت الصغيرة إلى إشعال بقية أعواد علبة الثقاب عبر حكها بالحائط، لكي تتخيل جدتها فترة أطول، فاقتربت الجدة من الصغيرة المسكينة، وأحاطتها بين ذراعيها، وطارتا معاً إلى السماء،

لم تعد الصغيرة تشعر لا بالبرد ولا بالجوع، ثم انطفأت كل الأعواد، و قد كانت بائعة الكبريت ممددة بين زاويتي المنزلين، بخديها المحمرين، وبسمتها الجميلة على فمها، وقد ماتت إثر البرد في المساء الأخير من السنة، وعندما طلع النهار، ورأى الناس جثتها الممدة، قالوا: يا لها من فتاة صغيرة حزينة، أرادت الدفء ؛ لكن في الحقيقة، لم يعرفوا بأنها نالت الدفء طوال حياتها. لم تكن النهاية حزينة بالنسبة لبائعة الكبريت، بل كانت نهاية سعيدة، لأنها صعدت إلى السماء مع جدتها، تاركة وراءها الكبريت، والبرد الشديد، والجوع .

حكاية ام

حكى هانز كريستيان اندرسن في قصة ام حكاية لها معان غاية في الروعة. تقول القصة ان

أحد العجائز دخل إلى بيت أم, والتي لم تهنأ بنوم ساعة واحدة لمدة ثلاثة أيام متتالية بسبب طفلها, والذي كان يحتضر. ولم يلبث دقائق حتى اختطف العجوز الطفل وولى هارباً بسرعة الرياح. كانت صدمة الأم رهيبة, ليس بسبب اختطاف الطفل من قبل العجوز فقط, بل بسبب أن هذا العجوز لم يكن إلا الموت نفسه. الموت متنكراً بهيئة رجل عجوز.

تقرر الأم مطاردة الموت من أجل عودة الطفل الصغير للمنزل, تواجه الأم عدة عقبات بسبب سرعة الموت الرهيبة. يظهر من هذه العقبات مدى شوق الأم لابنها, هي أم, ولا تريد أبداً أن تسمع شيء عن الفراق بينها وبين الطفل. تاهت في وسط الطريق ولم تعرف أين ذهب الموت بنوارة قلبها. في طريقها تجد الأم امرأة متشحة بالسواد – لم يكن سوى الليل – تعرف الطريق الذي سلكه الموت.. يرفض الليل البوح بمكان الطريق الذي سلكه الموت حتى تغني الأم كل الأغاني التي أنشدتها للطفل الصغير وهو في المهد. غريب أمر هذا الليل! لم يكن هذا الطلب بسبب الأغاني ذاتها, بل بسبب الدموع التي سكبتها الأم طيلة الأيام الماضية وهي تغني لصغيرها. لم تكن الأم مهتمة بالأغاني, تريد أن تعرف الطريق الذي هرب به الموت مع صغيرها. يصمت الليل حتى تقرر الأم الغناء: وتغني الأم, ممسكة يديها, كان هناك الكثير من الدموع, والكثير من الغناء.

تواصل الأم السير في خطى الموت بعد معرفة الطريق من قبل الليل, وتصدم مرة أخرى بعقبة مفترق الطرق. كان هناك هذه المرة شجرة شوكية تعرف الطريق الذي سلكه الموت, ولكن, كما الليل, يريد خدمة مقابل أن يفضي بسر الطريق. الخدمة هي: أن تضم الأم الشجرة الشوكية وتدفئها, فهي حسب قولها ميتة من البرد وتحس بالتجمد. لم تتردد الأم لحظة واحدة, فضمت الأم الشجرة الشوكية إلى صدرها حتى انغرست أشواك الشجر وسط جسدها. تحولت أشواك الشجرة إلى أغصان خضراء, وأزهرت في الشتاء البارد. هذا ما يفعله قلب الأم الدافئ.

ضمت الأم الشجرة الشوكية إلى صدرها حتى انغرست أشواك الشجر وسط جسدها. تحولت أشواك الشجرة إلى أغصان خضراء, وأزهرت في الشتاء البارد.

تستمر رحلة المطاردة وعقبة أخرى تقف في طريقها: إن هي أرادت الاستمرار في طريق الموت والطفل يجب عليها أن تتخطى بحيرة كبيرة, أن تسير عليها, وهذا مالا تقدر عليه, أو تشرب ماءها كله, ولن تقدر عليه بحال من الأحوال. اشترط البحر كما فعل الليل والشجرة خدمة كذلك. طوال تلك الرحلة الطويلة, كانت الأم تضحي بكل ما تملك في سبيل الطفل: بكت حتى سقطت عيناها في البحر لؤلؤتين نفيستين, قصت شعرها الأسود وأهدته لعجوز طاعنة في السن .. ويتفاجئ الموت أن أمامه الآن الأم. قطعت مسافات طويلة من أجل هذه النبتة المغروسة في حديقة الموت: طفلها. كيف استطاعت أن تصل إلى مكان الموت قبل الموت نفسه, صاحب الحديقة؟ كان جوابها مفحماً بكلمة واحدة: أنا أم! قد لا تستطيع الأم أن تقف أمام الموت, ولكن رحمة الإله قادرة على صده. أنا مؤمن بأنها تمثل الصوت الحي لأغنية جين ستينمان: قد تعرف كيف تهمس, وقد تعرف كيف تبكي, وتعرف تماماً أين تجد الإجابات, وتعرف متى تكذب, وكيف تتصنع, وتعرف تماماً كيف تكيد لأعدائها, وتعرف طريق المال, الشهرة, تعرف كل القوانين, وكيف تكسرها .. لكنها لن تعرف, ولن تعرف على الإطلاق كيف تتخلص من يديه, ولن تدعه يسقط من يديها .. لأنها أم!

نهاية القصة من أروع النهايات التي قرأتها, والمختصة تحديداً بعلاقة الأم و الأبناء, وتبيان حالة العشق والهيام التي وصلت لحدودها القصوى : يا رب .. لا تستجب لدعواتي عندما تكون ضد مشيئتك التي هي الأفضل لنا دائماً، لا تستجب لها يا رب.