يوميات وحيد #12

hood

The person with the latent person. A black background

انقضى اسبوع دون ان يقابل اي انسان وكاد ان يقتنع بانه الوحيد على هذه الارض المعتمة التي لا ينيرها سوى ضوء القمر البارد. كان ضوء القمر الذي يجهل الالوان ويرسم معالم الارض دون تزويق. ضوء القمر الذي يجلل الارض بلونه الرمادي ويخنق الحياة ولو لليلة. هذا العالم الصامت، المسكوب كالرصاص، الذي لا تتحرك فيه سوى الريح التي تغطي البوادي الرمادية، هذا العالم الذي لا يحيا فيه سوى روائح الارض الجرداء، ولا يسمع فيه سوى  هسيس الافاعي التي تصل الى سمعه ممتزجة مع هفيف النسمات الرقيقة. هذا العالم وحده هو الذي كان يعترف به،وذلك لانه يشبه عالم روحه تماما.

عندما اشرقت الشمس في الصباح التالي كان وحيد لا يزال في البقعة نفسها، رافعا رأسه في الهواء محاولا بجهد اليائس التقاط الاتجاه الذي يتهدده منه خطر البشر، والاتجاه المعاكس الذي عليه متابعة فراره فيه. في كل اتجاه كان يرتاب .. لكنه لم يجد شيئا. لم يكن هناك سوى السكون في كل مكان سيطرت اصوات متجانسة صادرة عن العشب الجاف الذي يهف كنسمة خفيفة ولا شئ سواها. احتاج لفترة طويلة كي يصدق ما هو واقع امامه الان. لم يكن جاهزا بعد لسعادته. لذا طالت مقاومة شكوكه لعقله. وعند الغروب بدأت شكوكه تتراجع مفسحة المجال امام احساس متعاظم بالنشوة: فلقد افلت. انه وحده في العالم. وحيد تماما. تصاعدت من اعماقه فرحة هائلة. كفرحة من نجا من سفينة غارقة فرأى جزيرة مأهولة بعد اسابيع طويلة من الضياع في البحر. هكذا كانت فرحة وحيد بالوصول الى جبل الوحدة. صرخ من فرط السعادة. اخذ يخبط بقدميه، رافعا ذراعيه، راقصا دائرا حول نفسه، صائحا باسمه في الجهات الاربع. ضاما قبضتيه هازا اياهما بحماس في وجه الارض الشاسعة الممتدة تحته وفي جو الشمس الغاربة بانتصار، وكأنه هو الذي طردها من السماء، ظل هكذا يتصرف كالمجنون حتى انتصف الليل مقتنعا بأنه لن يغادر هذا المكان المبارك ابدا.

في اليوم التالي بدأ بالبحث عن الماء، ووجده في شق صخرة تحت القمة بمسافة قليلة، ينساب كشريط رفيع على الصخر. لم يكن كافيا لكنه اذا استمر في لعقه لساعة من الزمن فسيشبع حاجته منه ليوم كامل. كما وجد الغذاء ايضا كالعشب والتوت البري. اكتشف بالقرب من مكان الماء نفقا طبيعيا يؤدي بعد عدة انعطافات كثيرة الى فسحة ترابية ضيقة. لامس كتفا وحيد الصخر الى الجانبين، بوسعه ان تكور على نفسه ان يستلقي وفي هذا كان اقصى مبتغاه فيما يخص الراحة والنوم. استلقى في اكثر الجبال وحشة ووحدة. على عمق ثلاثين مترا تحت السطح استلقى كمن يرقد في قبره الخاص. لم يسبق له في حياته ان شعر بالامان كالان. ولا حتى في بطن امه. لو احترق العالم في الخارج فانه هنا لن يلاحظ ذلك. اخذ يبكي بصمت. كان ممتنا الى اقصى حد لهذه السعاة التي تغمر.

معروف ان هناك اناسا يبحثون عن الوحدة كالقديسين والتائبين. وهم غالبا ما ينسحبون الى الصحراء حيث يقتاتون الجراد والعسل البري. بعضهم يعيش في المغاير او الصوامع او في جزر نائية او على اعمدة صخرية. وهم يفعلون ذلك ليكونوا اقرب الى الله. بالوحدة يزهدون في رغباتهم ويحققون التوبة، بالوحدة تزهر ارواحهم وتزدهر اعماهم. انهم يفعلون ذلك منطلقين من اعتقادهم بانهم هكذا لا ينشغلون عن الله بشئ سواه.

لا شئ من ذلك يشغل وحيد فهو ليس تائبا ولا قديسا، فقط لمتعته الذاتية الخاصة اعتزل العالم، فعل هذا لكي يكون بقرب نفسه. كان يستلقي في مقامه الصخري، يكاد لا يتنفس، ويكاد قلبه لا ينبض، حيا بعمق، منغمسا في تأملاته او بالاحرى تخيلاته، كما لم يفعل احد من قبل. مارس تلك الرياضة العقلية ما ينيف عن العشرين ساعة كل يوم. ولم يكن مسرح هذه التخيلات الطليقة بطبيعة الحال سوى مملكته الداخلية. وكم كان لذة الشعور بالارهاق الناتج عن الانجاز عظيمة! كان قلبه قصرا ارجوانيا في صحراء صخرية، مختفيا وراء كثبان رملية ومحاطا بواحة مستنقعية خلف سبعة جدران حجرية. حين غاب عن عقله نكهة الجرعة الاخيرة حملق دون هدف. فجأة اصبح رأسه خاويا. لم يستيقظ على روحه العابقة بالذكريات الطيبة، وانما على ظلمة وصلابة جحره الصخري في نهاية النفق. كاد يتقيأ من الجوع والبرد والعطش.. زحف على اربعته، وفي الخارج كان هناك وقت نهاري ما، اما بداية الليل او نهايته. بدا له الهواء مغبرا حادا حارقا في رئتيه والارض قاسية بفعل احتكاكه بالنتوءات الصخرية ، كان لنور النجوم مفعول كوخز الابر في عينيه. لقد اصبح كسرطان البحر الذي غادر صدفته ليسبح في البحر عاريا.

ولكنه ابدا لم يستسلم يوما. كان ينهض في كل مرة وينفض اثار النوم عن اعضائه.. ويقف كالعملاق. وكم كان منظره رائعا! في احد المرات القى بنظرة حوله وبعد ان قضى على ذكريات ماضيه العطنة. اراد ان يخط خطا واثقا في البادية القفرة، باذرا روائح الطيب بمختلف انواعها. هنا بسخاء وهناك باقتصاد. في اودية شاسعة لا حدود لها، وفي احواض صغيرة انيقة. فعل ذلك ناثرا البذور بملء كفيه، او واضعا بذرة بذرة، دافنا اياها في اماكن مختارة بعناية. لم يتبق زاوية في حقوله العقلية لم يبذر فيها بذور اطيابه الذهنية.

وحيد #7

silent_as_the_grave_by_boodie

استيقظ وحيد هذه الليلة على انين خافت يتلوى في ظلام الكوخ فخفق قلبه الصغير، وهتف ينادي عمته، عمّ الكوخ صمت عميق، ثم ما لبثت الانات ان اخذت تتفاقم وتزداد عمقا ورهبة مع كل دقيقة تمر وكأنه نداء الموت. وقف الى جانب عمته متسائلا:

– نعم يا عمتي انا هنا.

– اضئ القنديل يا ولدي.

نهض وحيد واضاء القنديل الموضوع فوق منضدة قديمة في زاوية من الحجرة، فتراقصت ظلاله وكأنها اشباح هائمة. عادت عمته تدعوه من جديد:

– وحيد تعال يا ولدي.. اعطني يدك. مسكين انت يا ولدي. سأتركك وحيدا في هذه الدنيا. انني في طريقي الى القبر، وليس في وسعي ان اؤجل القضاء المكتوب. ان الحياة تنسل من جسدي لحظة بعد اخرى يا بنيّ.

– عمتي عمتي. لا تتركيني وحدي، اني خائف!

وتكوّر الى جوارها. ثم انحنى على وجهها ولثم جبينها وهو يقول بلهجة مؤثرة وصوت يخالجه نشيجه:

– لا اريد الصرة. اريدك انت!

– خذ الصرة لاني لا استطيع ان احملها الى القبر. خذها يا بنيّ لتعينك على صروف الدهر.

اطاع وحيد وتناول الوحيد الصرة من يدها الواهنة، ومن غير ان يتفوه بكلمة.

فجأة انّت انينا خافتا وقالت بصوت متقطع:

– وحيد دع عيناي تشبعان بمرآك لاخر مرة.. اني اموت.

وفي لحظات خوفه هذه، خيّل اليه ان شبحا انتصب امامه، شبحا ذا انياب حادة، وعيون حمراء ينطلق منها الشرار، يريد ان يلتهمه، فتراجع الى الوراء مذعورا، وفي اثناء ذهوله العميق راح ينادي عمته فلم يجبه سوى عويل الرياح.

***

امام القبر وقف المشيعين واجمين، بدا له الجميع حزين وكأن كل هؤلاء انعكاسا في المرآة له هو نفسه.. عندما تفرق الناس ظل وحيد ذاهلا امام القبر. بدا الطقس له باردا في عالم اكتنفه ليل حالك. وقف جامدا كأنه نصبا تذكاريا نحت من صوّان. انه لا يريد ان يغادر المكان ابدا. لقد قضى طفولته مع عمته التي اصبحت بمثابة والدته، ولن يفارقها الآن. انه سيمكث الى جوارها الى ان يواريه الثرى. انه لا يستطيع العيش بدونها، وخير له ان يموت الى جوارها.

سمع صوتا خفيفا يناديه، واحس بيد حنون تربت على كتفه، فاستدار ببطء وتطلع حوله بعينين هامدتين حزينتين، فلاح له محيّا الخالة ليلى صديقة عمته التي تقطن الى جوارهما، ونقلت الريح صوتها الي مسامعه:

– تعال يا بني، لا يمكنك ان تظل واقفا عند هذا القبر.. تعال معي واقض يومك في منزلي.

وامسكت بيده وقادته الى خارج المدفن.

تردد في بادئ الامر فهو يريد ان يخلو الى نفسه، لعله في استعراض ذكرياته يقوم بعملية تطهير ذاتية تسعفه على تمزيق تلك الصفحة الكئيبة من حياته. فهو ما انفك يعيش في دوامة الماضي لا يستطيع الهرب منها. حاول جهده ان يتفاداها ويعقد معها هدنة، ولو مؤقتة، ولكنها ابت عرضه، وتقدمت بكل ما تدججت به من اسلحة فتاكة..

وحيد #1

star

كانت صفحة البحر ساكنة تتألق تحت اشعة الشمس الغاربة الذهبية، وراحت الباخرة تمخر عباب البحر بكبرياء وفي كل ثانية يبتعد فيها عن اطلال الكوخ الذي ترعرع فيه في طفولته البائسة وكان يدفن في الزمن الهارب قطعة من ذاته.

اتكأ جميل على الافريز يتأمل في الامواج المتلاطمة في غسق الغروب واستغرق في ذكرياته. انه الان في التاسعة من عمره، وقد خطّ ازميل الحياة على جبينه بعض الخطوط الواهية المتغضنة المثقلة بالاحزان، وسرى في محيّاه شحوب خفيف قلما تشاهده في الوجوه الفتية. خيل اليه انئذ ان وطنه اثمن من كل ما في الوجود من كنوز.. جلس قرابة الساعة مستغرقا في افكاره.. واخيرا مضى نحو قمرته بخطى متثاقلة كمن يجر خلفه متاعب الحياة.

في طريقه التقى بطفلة صغيرة تبكي.. ادرك انها تبكي لانها فقدت والدتها. اخذ يربت على كتفها بحنان بالغ.. تطلعت اليه الفتاة الصغيرة بعينين خائفتين تترقرق فيهما الدموع وقالت بصوت متهدج:

– لقد ضللت طريقي.

فحاول ان يبتسم واجاب بصوت مضطرب:

– ما اسمك؟

فاجابت بنبرة وجلة:

– اسمي مي.

ولكن ها هو الماضي يطارده حتى انه لا يكاد يصدق ان ما يراه امامه هو صورة مصغرة من هانا الفتاة التي احبها ولكنه لم يوفق في الارتباط بها.. وفجأة توقفت الفتاة عن النشيج فجأة. كانت الطفلة قد لمحت والدتها التي كانت تبحث عنها بجزع على ظهر السفينة.

وتشوب محياه مسحة من الاسى.. ما اشد الشبه بين الام وابنتها انها تكاد تكون نسخة مكبرة عن طفلتها بل ما اشبهها بهانا، تلك الفتاة التي احبها من صميم قلبه وكان يحلم بالزواج منها ولكن حال القدر بينه وبينها..

لمن أشكو كآبتي

غسق المساء.. ندف الثلج الكبيرة الرطبة تدور بكسل حول مصابيح الشارع التي أضيئت لتوها، وتترسب طبقة رقيقة لينة على أسطح المنازل وظهور الخيل, وعلى الأكتاف والقبعات.. والحَوذي (ايونا بوتابوف) أبيض تماماً كالشبح.. انحنى متقوسا، بقدر ما يستطيع الجسد الحي أن يتقوس وهو جالس على المقعد بلا حراك.. ويبدو أنه لو سقط عليه كوم كامل من الثلج فربما ما وجد ضرورة لنفضه……. وفرسه أيضاً بيضاء تقف بلا حراك وتبدو بوقفتها الجامدة وعدم تناسق بدنها وقوائمها المستقيمة كالعصي حتى عن قرب أشبه بحصان الحلوى الرخيص، وهى على الأرجح مستغرقة في التفكير؛ فمن أُنتزع من المحراث من المشاهد الريفية المألوفة وأُلقي به هنا في هذه الدوامة المليئة بالأضواء الخرافية و الصخب المتواصل والناس الراكضين لا يمكن ألا أن يفكر…..
لم يتحرك ايونا وفرسه من مكانهما منذ وقت طويل. كانا قد خرجا من الدار قبل الغداء ولكنهما لم يستفتحا حتى الأن، وها هو ظلام المساء يهبط على المدينة، ويتراجع شحوب أضواء المصابيح مفسحا مكانه للالوان الحية, وتعلو ضوضاء الشارع .
ويسمع ايونا : يا حوذي! إلى فيبورجسكا ! يا حوذي!
يتنفض ايونا ويرى، من خلال رموشه المكللة بالثلج، رجلا عسكريا في معطفه بقلنسوة. ويردد العسكري : إلى فيبورجسكايا, ماذا هل أنت نائم؟ إلى فيبورجسكايا! ويشد أيونا اللجام؛ علامة الموافقة، فتتساقط إثر ذلك طبقات الثلج من على ظهر الفرس ومن على كتفيه…..ويجلس العسكري في الزحافة، ويطقطق الحوذي بشفتيه ويمد عنقه كالبجعة وينهض قليلا ويلوح بالسوط بحكم العادة اكثر مما هو بدافع الحاجة وتمد الفرس ايضاً عنقها, وتعوج سيقانها وتتحرك من مكانها بتردد….. وما إن يمضي ايونا بالزحافة حتى يسمع صيحات من الحشد المظلم المتحرك جيئة وذهاباً: إلى أين تندفع أيها الأحمق! أي شيطان ألقى بك؟ الزم يمينك! .. ويقول العسكري بانزعاج: أنت لاتجيد القيادة! الزم يمينك!
ويسبه حوذي عربة حنطور، ويحدق أحد المارة بغضب وكان يعبر الطريق فاصطدمت كتفه بعنق الفرس وينفض الثلج عن كمه، ويتملل ايونا فوق المقعد وكأنه جالس على جمر ويضرب بمرفقيه في كلا الجانبين ويدور بنظراته كالممسوس وكأنما لا يفهم أين هو ولماذا هو هنا.
ويسخر العسكري : يا لهم جميعا من أوغاد! كلهم يسعون إلى الاصطدام بك أو الوقوع تحت أرجل الفرس.. إنهم متآمرون ضدك.. يتطلع ايونا إلى الراكب ويحرك شفتيه….يبدو أنه يريد أن يقول شيئا ما ولكن لا يخرج من حلقه سو الفحيح.
فيسأله العسكري: ماذا؟
يلوي ايونا فمه بابتسامة ويوتر حنجرته ويفح :
– أنا يا سيدي.. هذا الأسبوع ..ابني مات .
– ممم!.. مات أذن؟
يستدير ايونا بجسده كله نحو الراكب ويقول:
– ومن يدري؟ .. يبدو أنها الحمى .. رقد في المستشفى ثلاثة أيام ومات… مشيئة الله.
ويتردد في الظلام:
– حاسب يا ملعون ! هل عَميت أيها الكلب العجوز؟ افتح عينيك!
ويقول الراكب:هيا, هيا سر، بهذه الطريقة لن نصل ولا غدا. عجّل! ويمد الحوذي عنقه من جديد، وينهض قليلا ويلوح بالسوط بحركة رشيقة متثاقلة، ويلتفت إلى الراكب عدة مرات ولكن الأخير كان قد أغمض عينيه ويبدو غير راغب في الإنصات. وبعد أن أنزله في فيبورجسكايا توقف عند إحدى الحانات، وانحني متقوسا وهو جالس على مقعد الحوذي, وجَمُد بلا حراك مرة أخرى.. ومن جديد يصبغه الثلج الرطب؛ هو وفرسه باللون الابيض، وتمر ساعة وأخرى.
على الرصيف يسير ثلاثة شبان وهم يطرقعون بأحذيتهم في صخب ويتبادلون السباب؛ اثنان منهم طويلان نحفيان والثالث قصير أحدب .. ويصيح الأحدب بصوت مرتعش:
– يا حوذي إلى جسر الشرطة! ثلاثة ركاب….بعشرين كوبيكا.
يشد ايونا اللجام ويطقطق بشفتيه ليست العشرون كوبيكا بسعر مناسب ولكنه في شغل عن السعر…. فسواء لديه روبل ام خمسة كوبيات…المهم أن يكون هناك ركاب…يقترب الشبان من الزحافة وهم يتدافعون بألفاظ نابية ويرتمي ثلاثتهم على المقعد دفعة واحدة. وتبدأ مناقشة حادة من الاثنين اللذين سيجلسان ومن الثالث الذي سيقف؟، وبعد سباب طويل ونزق وعتاب يصلون إلى حل : الأحدب هو الذي ينبغي أن يقف باعتباره الأصغر.. فيقول الأحدب بصوته المرتعش وهو يثبت أقدامه ويتنفس في قفا ايونا: هيا عجل! اضربها بالسوط! يا لها من قبعة لديك يا أخي! لن تجد في بطرسبرج كلها أسوأ منها…..
فيقهقه ايونا : هذا هو الموجود….
– اسمع أنت أيها الموجود عَجّل، هل تسير هكذا طول الطريق؟ ألا تريد صفعة على قفاك؟
ويقول أحد الطويلين: رأسي يكاد ينفجر؛ شربت بالأمس أنا وفاسكا عند آل دوكماسوف أربع زجاجات كونياك نحن الاثنين.. ويقول الطويل الأخر بغضب: لا أدري ما الداعي للكذب ! يكذب كالحيوان .
– عليّ اللعنة إن لم تكن حقيقة…
– إنها حقيقة مثلما هي حقيقة أن القملة تعسل.
فيضحك ايونا: هىء هىء هىء .. سادة ظرفاء .
ـ فلتخطفك الشياطين! هل ستعجل ايها الوباء العجوز أم لا!
ـ هل هذا سير؟ ناولها بالسوط ! هيا ايها الشيطان! هيا! ناولها جيدا !
ويحس ايونا خلف ظهره بجسد الأحدب المتململ ورعشة صوته ويسمع السبابا الموجه إليه ويرى الناس فيبدأ الشعور بالوحدة ينزاح عن صدره شيئا فشيئا. ويظل الأحدب يسب حتى يغص بسباب منتقى فاحش وينفجر في السعال. ويشرع الطويلان في الحديث عمن تدعى ناديجدا بتروفنا.
ويتطلع ايونا نحوهم وينتهز فرصة الصمت فيتطلع نحوهم ثانية ويدمم:
– اصلاً أنا..هذا الأسبوع..ابني مات!
فيتنهد الأحدب وهو يمسح شفتيه بعد السعال :
– كلنا سنموت..هيا عجل عجل.. يا سادة أنا لا يمكن أن أمضي بهذه الطريقة متى سيوصلنا؟
– حسنا فلتشجعه قليلا… في قفاه !
ـ هل سمعت ايها الوباء العجوز؟ سأكسر لك عنقك! التلطف مع جماعتكم معناه السير على الأقدام….هل تسمع ايها الثعبان الشرير؟ أم أنك تبصق على كلماتنا؟
ويسمع ايونا أكثر مما يحس بصوت الصفعة على قفاه.
فيضحك هىءهىءهىء سادة ظرفاء….. ربنا يعطيكم الصحة
ويسأل أحد الطويلين: يا حوذي هل أنت متزوج؟
– أنا .. هىءهىء…. سادة ظرفاء ! لم يعد لدي الأن إلا زوجة واحدة : الأرض الرطبة؛ أي القبر ! ..ها هو ابني قد مات وانا أعيش….. شيءغريب؛ الموت أخطأ بوابته….. بدلا من أن يأتيني ذهب إلى ابني ….
ويتلفت أيونا لكي يروي كيف مات ابنه ولكن الأحدب يتنهد بارتياح ويعلن أنهم أخيرا، والحمد لله، وصلوا.. ويحصل ايونا على العشرين كوبيكا، ويظل طويلا في أثر العابثين وهم يختفون في ظلام المدخل وها هو وحيد ثانية ومن جديد يشمله السكون…. والوحشة التي هدأت قليلا تعود تطبق على صدره بأقوى مما كان وتدور عينا ايونا بقلق وعذاب على الجموع المهرولة على جانبي الشارع : ألن يجد في هذه الآلاف واحدا يصغي إليه ؟
.. ولكن الجموع تُسرع دون أن تلاحظه أو تلاحظ وحشته؛ وحشة هائلة لا حدود لها.. لو أن صدر ايونا انفجر وسالت منه الوحشة فربما أغرقت الدنيا كلها، ومع ذلك لا أحد يراها.
لقد استطاعت أن تختبئ في صَدفة ضئيلة؛ فلن تُرى حتى في وَضَح النهار…….
يلمح ايونا بوابا يحمل قرطاسا فينوي أن يتحدث إليه ويساله : كم الساعة الآن يا ولدي؟
– التاسعة.. لماذا تقف هنا .. امشِ.
يتحرك عدة أمتار ثم ينحني متقوسا ويستسلم للوحشة…. ويرى أنه لا فائدة بعد من مخاطبة الناس ولكن ما إن تمر بضع دقائق حتى يتعدل وينفض رأسه كأنما أحس بوخزة ألم حادة ويشد اللجام … لم يعد قادرا على التحمل.
ويخاطب نفسه : إلى البيت .. إلى البيت
وكأنما فهمت الفرس أفكاره فتبدأ في الركض بحماس، وبعد حوالي ساعة ونصف يكون ايونا جالسا بجوار فرن كبير قذر، وفوق الفرن وعلى الأرض وعلى الأرائك يتمدد أناس يشخرون، والجو مكتوم خانق…. يتطلع ايونا إلى النائمين، ويحك جلده ويأسف لعودته المبكرة إلى البيت ويقول لنفسه : لم أكسب حتى حق الشعير ولهذا أشعر بالوحشة، الرجل الذي يعرف عمله، الشابع هو وفرسه؛ دائما مطمئن البال..
في أحد الزوايا ينهض حوذي شاب، ويسعل بصوت ناعس ويمد يديه إلى الدلو.. فيسأله ايونا:
– أتريد أن تشرب؟
– كما ترى .
– بالهناء والشفاء… أما أنا يا أخي فقد مات ابني هل سمعت؟ هذا الأسبوع في المستشفى…… حكاية!
ويتطلع ايونا ليرى أي تأثير تركته كلماته ولكنه لا يرى شيئا؛ فقط تَغطًى الحَوذي الشاب حتى رأسه وغط في النوم، ويتنهد العجوز ويحك جلده….فمثلما رغب الحوذي الشاب في الشرب يرغب هو في الحديث.. عما قريب يمر أسبوع منذ أن مات ابنه، بينما لم يتمكن حتى الآن من الحديث عن ذلك مع أحد كما يجب……… ضروري أن يتحدث بوضوح على مهل…. ينبغي أن يروى كيف مرض ابنه وكيف تعذب وماذا قال قبل وفاته وكيف مات، ينبغي أن يصف جنازته وذهابه إلى المستشفى ليتسلم ثياب الفقيد، وفي القرية بقيت ابنته أنيسيا….ينبغي أن يتحدث عنها أيضا…. وعوما فما أكثر ما يستطيع أن يروي الآن؛ ولا بد أن يتأوه السامع ويتنهد ويرثى… والأفضل أن يتحدث مع النساء، فهؤلاء وإن كن حمقاوات يوَلونْ من كلمتين.
ويقول ايونا لنفسه : فلأذهب لأتفقد الفرس…..وفيما بعد سأشبع نوماً .. يرتدي الملابس ويذهب إلى الاصطبل حيث تقف الفرس ويفكر في الشعير والدريس و الجو فعندما يكون وحده لا يستطيع أن يفكر في ابنه….يستطيع أن يتحدث عنه مع أحد، وأما أن يفكر فيه ويرسم لنفسه صورته فشيء رهيب لا يطاق…. ويسأل أيونا فرسه عندما يرى عينيها البراقيتين
– تمضغين؟ حسنا امضغي أمضغي .. ما دمنا لم نكسب حق الشعير فسنأكل الدريس…نعم أنا كبرت على القيادة، كان المفروض أن يسوق ابني لا أنا، كان حوذيا أصيلا لو أنه فقط عاش…… ويصمت ايونا بعض الوقت ثم يواصل :
– هكذا يا أخي الفرس، لم يعد كوزما أيونيتش موجودا… رحل عنا….فجأة .. خسارة.. فلنفرض مثلا أن عندك مهرا وأنت أم لهذا المهر…… ولنفرض أن هذا المهر رحل فجأة، أليس مؤسفا؟.
وتمضغ الفرس وتنصت وتزفر على يدي صاحبها، ويندمج ايونا فيحكي لها كل شيء…….

تشيخوف