
The person with the latent person. A black background
انقضى اسبوع دون ان يقابل اي انسان وكاد ان يقتنع بانه الوحيد على هذه الارض المعتمة التي لا ينيرها سوى ضوء القمر البارد. كان ضوء القمر الذي يجهل الالوان ويرسم معالم الارض دون تزويق. ضوء القمر الذي يجلل الارض بلونه الرمادي ويخنق الحياة ولو لليلة. هذا العالم الصامت، المسكوب كالرصاص، الذي لا تتحرك فيه سوى الريح التي تغطي البوادي الرمادية، هذا العالم الذي لا يحيا فيه سوى روائح الارض الجرداء، ولا يسمع فيه سوى هسيس الافاعي التي تصل الى سمعه ممتزجة مع هفيف النسمات الرقيقة. هذا العالم وحده هو الذي كان يعترف به،وذلك لانه يشبه عالم روحه تماما.
عندما اشرقت الشمس في الصباح التالي كان وحيد لا يزال في البقعة نفسها، رافعا رأسه في الهواء محاولا بجهد اليائس التقاط الاتجاه الذي يتهدده منه خطر البشر، والاتجاه المعاكس الذي عليه متابعة فراره فيه. في كل اتجاه كان يرتاب .. لكنه لم يجد شيئا. لم يكن هناك سوى السكون في كل مكان سيطرت اصوات متجانسة صادرة عن العشب الجاف الذي يهف كنسمة خفيفة ولا شئ سواها. احتاج لفترة طويلة كي يصدق ما هو واقع امامه الان. لم يكن جاهزا بعد لسعادته. لذا طالت مقاومة شكوكه لعقله. وعند الغروب بدأت شكوكه تتراجع مفسحة المجال امام احساس متعاظم بالنشوة: فلقد افلت. انه وحده في العالم. وحيد تماما. تصاعدت من اعماقه فرحة هائلة. كفرحة من نجا من سفينة غارقة فرأى جزيرة مأهولة بعد اسابيع طويلة من الضياع في البحر. هكذا كانت فرحة وحيد بالوصول الى جبل الوحدة. صرخ من فرط السعادة. اخذ يخبط بقدميه، رافعا ذراعيه، راقصا دائرا حول نفسه، صائحا باسمه في الجهات الاربع. ضاما قبضتيه هازا اياهما بحماس في وجه الارض الشاسعة الممتدة تحته وفي جو الشمس الغاربة بانتصار، وكأنه هو الذي طردها من السماء، ظل هكذا يتصرف كالمجنون حتى انتصف الليل مقتنعا بأنه لن يغادر هذا المكان المبارك ابدا.
في اليوم التالي بدأ بالبحث عن الماء، ووجده في شق صخرة تحت القمة بمسافة قليلة، ينساب كشريط رفيع على الصخر. لم يكن كافيا لكنه اذا استمر في لعقه لساعة من الزمن فسيشبع حاجته منه ليوم كامل. كما وجد الغذاء ايضا كالعشب والتوت البري. اكتشف بالقرب من مكان الماء نفقا طبيعيا يؤدي بعد عدة انعطافات كثيرة الى فسحة ترابية ضيقة. لامس كتفا وحيد الصخر الى الجانبين، بوسعه ان تكور على نفسه ان يستلقي وفي هذا كان اقصى مبتغاه فيما يخص الراحة والنوم. استلقى في اكثر الجبال وحشة ووحدة. على عمق ثلاثين مترا تحت السطح استلقى كمن يرقد في قبره الخاص. لم يسبق له في حياته ان شعر بالامان كالان. ولا حتى في بطن امه. لو احترق العالم في الخارج فانه هنا لن يلاحظ ذلك. اخذ يبكي بصمت. كان ممتنا الى اقصى حد لهذه السعاة التي تغمر.
معروف ان هناك اناسا يبحثون عن الوحدة كالقديسين والتائبين. وهم غالبا ما ينسحبون الى الصحراء حيث يقتاتون الجراد والعسل البري. بعضهم يعيش في المغاير او الصوامع او في جزر نائية او على اعمدة صخرية. وهم يفعلون ذلك ليكونوا اقرب الى الله. بالوحدة يزهدون في رغباتهم ويحققون التوبة، بالوحدة تزهر ارواحهم وتزدهر اعماهم. انهم يفعلون ذلك منطلقين من اعتقادهم بانهم هكذا لا ينشغلون عن الله بشئ سواه.
لا شئ من ذلك يشغل وحيد فهو ليس تائبا ولا قديسا، فقط لمتعته الذاتية الخاصة اعتزل العالم، فعل هذا لكي يكون بقرب نفسه. كان يستلقي في مقامه الصخري، يكاد لا يتنفس، ويكاد قلبه لا ينبض، حيا بعمق، منغمسا في تأملاته او بالاحرى تخيلاته، كما لم يفعل احد من قبل. مارس تلك الرياضة العقلية ما ينيف عن العشرين ساعة كل يوم. ولم يكن مسرح هذه التخيلات الطليقة بطبيعة الحال سوى مملكته الداخلية. وكم كان لذة الشعور بالارهاق الناتج عن الانجاز عظيمة! كان قلبه قصرا ارجوانيا في صحراء صخرية، مختفيا وراء كثبان رملية ومحاطا بواحة مستنقعية خلف سبعة جدران حجرية. حين غاب عن عقله نكهة الجرعة الاخيرة حملق دون هدف. فجأة اصبح رأسه خاويا. لم يستيقظ على روحه العابقة بالذكريات الطيبة، وانما على ظلمة وصلابة جحره الصخري في نهاية النفق. كاد يتقيأ من الجوع والبرد والعطش.. زحف على اربعته، وفي الخارج كان هناك وقت نهاري ما، اما بداية الليل او نهايته. بدا له الهواء مغبرا حادا حارقا في رئتيه والارض قاسية بفعل احتكاكه بالنتوءات الصخرية ، كان لنور النجوم مفعول كوخز الابر في عينيه. لقد اصبح كسرطان البحر الذي غادر صدفته ليسبح في البحر عاريا.
ولكنه ابدا لم يستسلم يوما. كان ينهض في كل مرة وينفض اثار النوم عن اعضائه.. ويقف كالعملاق. وكم كان منظره رائعا! في احد المرات القى بنظرة حوله وبعد ان قضى على ذكريات ماضيه العطنة. اراد ان يخط خطا واثقا في البادية القفرة، باذرا روائح الطيب بمختلف انواعها. هنا بسخاء وهناك باقتصاد. في اودية شاسعة لا حدود لها، وفي احواض صغيرة انيقة. فعل ذلك ناثرا البذور بملء كفيه، او واضعا بذرة بذرة، دافنا اياها في اماكن مختارة بعناية. لم يتبق زاوية في حقوله العقلية لم يبذر فيها بذور اطيابه الذهنية.