عند القبر الفارغ
كان باراباس يرقد وراء شجيرة على الجانب الأخر من الطريق، في مواجهة المقبرة . حينما يتسلل النور سيصبح قى مقدوره ان يتبين المقبرة .التي لا يراها بوضوح من مكانه هنا.
آه لو طلعت الشمس ققط !، هكذا حدث نفسه.
صحيح أنه يعرف أن ما من احد من قبل قد قام حيا من نفسه بعد موته، لكنه يريد أن يتحقق من هذا بعينيه، يريد ان يتحقق ان لا صحة لما قاله الناصري لتلاميذه من انه سيقوم بعد موته، وانه ليس للموت سلطان عليه. من أجل هذا بكر بالحضور الى هنا ، قبل شروق الشمس بفترة طويلة ، ولبث منتظرا وراء الشجيرة ٠ على الرغم من انه دهش، الى حد ما من نفسه ، من فعلته هذه ، من مجيئه الى هنا . وعلى العموم لماذا يشغل باله بذلك الى هذا الحد ؟ ما شأنه به ؟ وكان يتوقع أن يجد الكثيرين هنا ، جاءوا ليشهدوا المعجزة الكبرى . لهذا اختبأ كى لا يراه أحد ٠ لكن ، من الواضح أنه ليس هناك أحد غيره . ما أغرب هذا !
ولكنه تبين الآن شخصا يركع أمامه ، غير بعيد منه ، يخيل اليه أنه يركع فى الشارع نفسه ٠ ترى ، من يكون ؟ وكيف جاء ؟ انه لم يسمع قدوم أحد . ويبدو انه امرأة . لم تكن الكتلة الرمادية واضحة وهى راكعة على التراب الذى تشبهه .
وبدأ النور يتسلل ، وسرعان ما أرسلت الشمس اشعتها الأولى على الصخرة التى نحت فيها القبر . و حدث كل شئ في اسرع من لمح البصر لدرجة أنه لم يستطع ان يلاحقه – وهو الذى كان يتعين عليه فى هذه اللحظة بالذات ، أن يستجمع كل حواسه ! القبر فارغ ! الحجر متدحرج على الأرض والفراغ المنحوت فى الصحرة فارغ !
بلغ من ذهوله فى البداية أنه ظل يحدق فقط فى الفتحة التى رآها بنفسه يضعون الرجل المصلوب داخلها ، ويحدق في الحجر الكبير الذى رآهم يسدون به الفتحة . بيد أن الأمر كله اتضح له . لم يحدث شىء في الواقع . لقد كان الحجر مزاحا ، قبل أن يجىء هو الى هذا المكان . كذلك كان القبر فارغا . وليس من الصعب ان يتكهن بمن أزاح الحجر جانبا ، ومن الذى أخذ الميت . لا شك أن الحواريين فعلوا هذا فى خلال احدى ساعات الليل ، تحت جنح الليل هرعوا بجسد معلمهم الحبيب ، كى يقولوا بعد ذلك : انه بعث من الموت مثلما تكهن . لم يكن من الصعب تدبير هذا . من أجل ذلك لم يبد لهم أثر هذا الصباح ، وقت شروق الشمس ، اللحظة التى كان يجب أن تحدث فيها المعجزة بالفعل . لقد هربوا !
وخرج باراباس من مخبئه وذهب يفتش القبر عن كثب . واذ مر بالجسد الرمادى الراكع في الطريق ألقى نحوه ببصره ، وكانت دهشته بالغة حين وجد الفتاة ذات الشفة الأرنبية ، وتوقف بل وظل واقفا ينظر اليها . كان وجهها ، الذى أنهكه الجوع وكساه لون الرماد ، متجها ناحية القبر الفارع ، وكانت عيناها المنتشيتان لا تريان شيئا غير القبر . أما شفتاها فمنفرجتان . لكنها لم تكن تتنفس تقريبا . واستحال الجرح المشوه فوق شفتيها العليا الى لون أبيض .
ولم تنتبه لبارباس حين اقترب منها فقد كانت مستغرقة.
وداهمه احساس غريب ، احساس بالخجل ، وهو يراها على هذه الحال . وتذكر شيئا ، لم يكن يريد أن يتذكره – ملامح وجهها في تلك اللحظة . كذلك كان يستشعر الخجل من ذاك … وحرر نفسه من هذا الشعور .
وأخيرا لمحته ، بدا أيضا أنها مشدوهة للقاءها بالمعلم، متشوقة ان يجئ الى هنا .
لا غرابة في الأمر – لقد دهشه هو ايضا أن يجد نفسه هنا . ما شأنه ؟ احب باراباس لو استطاع ان يتظاهر بأنه كان يتمشى فى الطريق ، وأنه مر من هنا بمحض المصادفه . وانه لا يعرف ان به مقبرة . هل يستطيع أن يتظاهر ؟
ربما بدا الأمر مصطنعا ، ربما لا تصدقه . لذا فقد سألها اخيرا : لماذا تركعين هكذا ؟
ولم تنظر الفتاة ، الى أعلى ، ولم تتحرك ، وانما استمرت على ركوعها وعيناها شاخصتان تجاه الفتحة التى فى الصخرة .ولكنه سمعها تهمس لنفسها :
– لقد قام من الموت.. !
وأحس بشعور غريب وهو يسمعها تقول ذلك . وعلى الرغم منه أحس بشىء شئ لم يستطيع أن يتبينه . ولبث هناك لحظة لا يدرى ماذا يقول او يفعل ؟ ثم صعد الى القبر ، وكان قد اعتزم ذلك ، وتيقن خلوه – لكنه كان يعرف ذلك سلفا، لم يكن ذلك الامر جديد . ثم عاد الى حيث تركع هى . بلغ من التبدل البادى على وجهها ، والنشوة التي اكتسحته – انه أحس بالأسف عليها . ان ما يسعدها الأن لا أساس له من الصحة . وفى مقدوره ان يحكى لها ان قصة هذه القيامة لا اساس لها من الصحة.
لكنه لا يستطيع أن يطوع نفسه على قول الحقيقة لها . وسألها بحذر عن رأيها فيما حدث ، وكيف خرج الرجل المصلوب من قبره .
شرعت تصف.. كيف ان ملاكا ملتحف بعباءة من نار ..نار اندفع هابطا من السماء وذراعه ممدودة الى الأمام وكأنها رأس رمح . وهو قد غمد هذا الرمح بين الصخر والحجر ففصلهما
وتطلعت اليه لحظة وهى مشدوهة . ألا تعرف ؟ لكنها شرعت ، بصوتها الأخنف ، تصف بنشوة ، وبالتفصيل ، كيف أن ملاكا فى عباءة من نار اندفع هابطا من السماء وذراعه ممدودة الى الأمام وكأنها رأس رمح ثم غمد هذا الرمح بين الصخر والحجر ففصلهما . وبدا الأمر غاية فى البساطة ، على الرغم من أنه كان معجزة . هذا ما حدث . ألم يشاهده هو ؟
واطرق باراباس الى الأرض وقال : انه لم يشاهد شيئا . وفي أعمق أعماقه أحس بسرور بالغ لأنه لم يرى شيئا ، ومعنى هذا أن عينيه أصبحتا على مايرام الأن ، مثل عيون الآخرين جميعا ، ومعناه ايضا انه لم يعد يرى رؤى ، لم يعد يرى غير الواقع نفسه و لم يعد لهذا الناصري اى سلطان عليه ، انه لم يشهد احدا قام من الموت ولم يشهد أى شئ . بيد ان الفتاة ذات الشفة المشقوقة ظلت راكعة هناك ، وعيناها متألقتان بذكرى المعجزة التى رأتها !
ولما وقفت فى النهاية على قدميها آى تسير مبتعدة قطعا جزءا من الطريق معا ، متجهين الى المدينة . ولم يتكلما كثيرا ، لكنه اكتشف بالفعل – بعد أن افترقا هذه المرة – أنها باتت تؤمن بما تسميه ابن الله ، اوما يسميه هو : الرجل الميت
لكنه حين سألها عن حقيقة تعاليم هذا الرجل لم ترد عليه وأنما نظرت بعيدا وتفادت نظرته . وكان واضحا أنها ستتجه الى الطريق الهابط الى الوادى، فى حين فكر هو فى المضى متجها الى بوابة داود . ولما وصلا الى مفترق الطرق سألها من جديد عن العقيدة التى يدعو اليها ، والتى تؤمن بها ، على الرغم من أن هذا لا يهمه . ولبثت لحظة ناظرة الى الأرض ، ثم رنت اليه بنظرة خجلى ، وقالت ، بصوتها الممضوغ . ليحب كل منكم الآخر . على هذا
النحو افترقا .
ولبث باراباس وقتا طويلا يحملق فيها وهى تبتعد .
ظل باراباس يسائل نفسه : لماذا ظل فى أورشليم على الرغم من أنه ليس هناك ما يشغله فيها . انه لا يفعل شيئا سوى الطواف بالمدينة بلا غاية ، بلا عمل يزاوله . وخطر بباله انهم سيندهشون ، في الجبال ، لغيبته الطويلة . لماذا بقى في المدينة ؟ انه نفسه لا يدرى.