في سنة 1411 بقرية مجهولة بفرنسا ولدت جان دارك وكانت راعية للغنم. وما ان بلغت الخامسة من عمرها حتى تراءت لها احلام ورؤى غريبة اذاعتها على ابويها فتحيرا لامرها. وفي سنة 1429 كان مصير فرنسا على المحك. فقد قضى الانجليز على الجيوش الفرنسية واحتلوا اكثر مدن فرنسا، وكان ملك فرنسا شارل السابع ملكا ضعيفا خائر القوى، فبدأ يسلّم بلا شروط للانجليز.
وهنا – وفي هذا الظرف المضطرب ظهرت فتاة في السابعة عشر من عمرها مدججة بالسلاح ممتطية جوادها تلبس زي فارس، فوصلت بعد جهد الى شارل الملك الذي داخله شك كبير في امرها واراد ان يمتحنها فاعطى كرسيه وثيابه لاحد الامراء ، ولكنها عند دخولها قصدته هونفسه وحيّته.. ولما تأكد الملك من عظمتها سلمها جيشا فاستطاعت في فترة وجيزة ان تحي الامل في قلوب الفرنسيين وتبث فيهم الشجاعة والايمان. ولعل اجمل رسالة كتبتها “ايها المحاربون الذي يحاصرون مدينة اورليان ارحلو عن بلادنا فاذا رفضتم فاستعدوا لما ستقابلونه منا”
عجيب امر هذه الفتاة التي اتت المعجزة حقا. لقد بدأت قيادتها للفرقة العسكرية في فبراير سنة 1429 ولم يحل يوليو من العام نفسه حتى كانت الجيوش الانجليزية قد هزمت اشر هزيمة. واذ كان يوم 17 يوليو حضرت حفلة تتويج مك فرنسا في كاتدرئية سان ريمس.
وبعد ذلك بقليل خانها الحظ اذ سلمها نفر من رجالها تلقاء ثمن باهظ فتسلمها الانجليز اسيرة واتهموها بالسحر والدجل وساقوها الى محكمة لا تعرف النزاهة ولا الرحمة ، اذ ان الانجليز انفسهم هم الذين اشرفوا على المحاكمة لجأوا الى وسائل التعذيب الجسدي والارهاق النفسي لحملها على الادلاء بالاقوال التي يريدونها ولم يسمح لها قط ان تستدعي شهودا ومع ذلك كانت “ساحرة” في دفاعها عن نفسها وهي تواجه اكبر العقول واشدها دهاءا. وهاك خلاصة ما دار من تحقيقات واستجواب في تلك المحكمة الهزلية:
القاضي: ان اقوالك عن الرؤى والوحى لا تزيد عن ان تكون خرافات واكاذيب وهي بلا شك صادرة عن الشياطين..
الجمهور (يضجون): شعوذة.. هرطقة..
جان: لا انكر اطلاقا ان اصواتا من السماء كانت توحي الي للعمل بما فيه خير بلادي.
القاضي: هل انت في حالة قربى من الله.
جان : اذا لم اكن في تلك الحالة فاني اسأل الله ان يوصلني اليها واذا كنت فيها فاني اسأله ان يبقيني فيها.
القاضي: وما هي تلك الاصوات التي تدعين سماعها؟
جان: انها اصوات الله والملائكة. اصوات جميلة حلوة.
القاضي: وهل الملاك ميخائيل يظهر لك عاريا؟
جان: وهل تظن ان الله لا يقدر ان يعطيه ثيابا؟
القاضي: انك تجدفين اذ تلبسين ثياب الرجال.
جان: لقد ارتديت ثياب الرجال لاني كنت وحيدة بين الاف الرجال فاردت ان اكون مثلهم فاحارب حروبهم وحتى لا يلهيهم النظر الى امرأة عند احتدام القتال.
اصوات: انك مشعوذة.. ساحرة.
جان: ما كنت لامارس السحر يوما ولا اؤمن به انما اؤمن بالله وحده.
نص الحكم:
اننا نقول ونقرر انك ارتكبت اثاما واخطاءا غاية في الخطورة ، وذلك بادعائك الرؤيا والزعم بان اصواتا تناديك من السماء، ذلك انك تقودين الناس الى التيه والضلال بالتأثير فيهم بالخرافات والتجديف على الله والملائكة، واثارتك روح الفتنة والشغب ، وضلالك عن الايمان الكاثوليكي، مع هذا كله سنعاملك بالرحمة فنحكم عليك بالسجن مدى الحياة، اذ تأكلين خبز الندم وتشربين ماء الحزن وتذرفين الدمع على ما اقترفت من اثام وحيث تمضين وقتك في البكاء والنحيب”.
واخيرا – وفي 30 مايو دبر المتآمرون الفصل الاخير لتلك المأساة، اذ ان هذا الحكم القاسي لم يروي غليل الانجليز ، فهددوا اعضاء المحكمة اذا لم يعدلوا الحكم الى الاعدام – ولقد كان فساقوا جان الى الميدان العام بمدينة “روان”، ووضعوا لافتة تقول “مهرطقة تعبد الاوثان.. جاحدة، خارجة عن الايمان” ثم اضرمت فيها النيران، وكان اخر ما فعلته انها قبّلت الصليب وهي تقول “يا يسوع المسيح”.