في سوق العبيد:
على المنصّة الكبيرة فى منطقة أبى قير بالاسكندرية ، وقف إثنان و عشرون عبداً ، رهن العرض للبيع .
إنه سوق العبيد ، وقت أن كانت تجارة الرقيق لا زالت منتشرة وكان ذلك فى أواخر القرن السابع عشر ، حين جمع التجار هذا العدد وقد إشتروهم بأثمان بخسة ليبيعوهم للأمراء والموسرين .
وكانت لهم طريقة خاصة فى عرض العبيد ، فهم ينظفونهم من الأوساخ التى لحقت بهم من جراء الاصطياد أو السفر ، ثم يلبسونهم ملابساً جديدة ليبدوا أكثر رشاقة ، ثم يضعونهم على منصة أشبه بالمسرح ، وفى صف نصف دائرى ، هذا وعلى صدر كل منهم تدّلت رقعة صغيرة من الخشب كتب عليها ، اسم العبد ووزنه وطوله وسنّه والعمل الذى يجيده ثم ثمنه ، ولكنهم يخفون البلد الذى أتو به منها ..
فى ذلك اليوم دقت الطبول وعزفت الموسيقى ، وكان شيئاً أشبه بالحفل ، لأن هذا المكان أيضا كان سوقاً كبيراً لكثير من المنتجات ، وملتقى ومنتدى لكثيرين من أهالى الاسكندرية ..
الامير الطيب:
وجاء أمير من الأمراء ، يبحث عن عبد يشترك فى العمل مع العبيد الآخرين فى قصره ، ووقف طويلاً أمام تلك المنصة يتفرس فى وجوه المعروضين للبيع .. شباباً فى ريعان الصبا ، تطفح عيونهم أساً ومرارة ، شاء الله أن يقعوا فرائساً فى أيدى المتجبرين العتاة، منهم من بيع سداداً لديون ذويه ، ومنهم من اصطيد فى الحرب ، ومنهم من باع نفسه !
وبدا له أن أفواههم تقذف حمماً، و عيونهم تقدح شراراً ، وتصرخ بالنقمة على المجتمع كله ، لا سيما الطبقة الارستقراطية فيه .
و الأمير، أمير طيب الفلب ، له قرية كبيرة ورثها عن ذويه .. كانت مثل مملكة صغيرة .. وبها بعض من العبيد والجوارى .. وتحيط بمملكته الصغيرة أراض كثيرة هى ملك له أيضا..
وهو لا يتعامل مع عبيده على أنهم عبيد … وإنما اجراء ، أو بمعنى آخر كان يحسبهم كأناس يعملون معه …لا عنده .
ونعرف أنه فى تلك الأيام ، كان من حق مالك العبد أن يفقأ له عينه مثلاً ، أو يكويه بالنار إذا سرق ، و أن يخصيه للوقاية ، و أن يقطع عضوا من جسمه ، يفعل به كما يحب ، ويترك صغاره يلهون به دون أن يعترض … بل له الحق فى قتله ، وذلك إذا هرب منه مثلاً ثم استطاع أن يجده ، هكذا كان القانون يتيح وقتها .
مر الأمير بعينيه على العبيد الواقفين يتململون فى وقفتهم واحداً فواحداً ، فرأى بينهم الممتلىء والنحيف ، والقبيح الوجه والجميل الصورة ، والفارع طولاً والمخل قصراً ، الضعيف البنية والقوى عضلاً .
وتردد .. وأجال البصر كثيراً إلى أن إستقر رأيه على ذلك الشاب المتوسط الطول، القوى البنية ، تنطق ملامحه الصريحة بالجدية وتشع عيناه ذكاءا وطيبة قلب …
واقترب قليلاً و أشار بيده ناحية ذلك الشاب ، وحينئذ أسرع حارس “فظ” وجذب الشاب جذبة لا رحمة فيها ، و استسلم الشاب دون أن يهتز ، رابط الجأش ، يمتلكه سلام عجيب ، ويشمله هدوء حلو ..
وقّرب الأمير اللوحة المدلاة على صدر الشاب إلى عينيه ، وتفرس فيها قليلاً ، ثم قال فى ثقة وسرعة : موافق !
وحينئذ إستلم الشاب مع الأوراق الخاصة به (صك العبودية) وإنطلق به إلى قصره..
+++
كان (روفين) من إحدى قرى البحيرة وقد هاجم قريته جماعة من البربر الذين أتوا من نواحي سيوه، منحدرين من ليبيا ، لقد هجموا على بعض بيوت القرية ، وقتلوا من فيها من الرجال والنساء ، ثم استبقوا الشباب فأسروهم عبيداً .
وهو من أسرة تقية ، فقد اتسم والداه بالبر، وأرضعاه اللبن المقدس، وعلماه كيف أحبه الله وكيف يحبه هو ، نشأ متعلماً أن يكون له مخدع يرتاده صباحاً ومساءاً ، وله فم مبارك ونظر مقدس .
وقد صُدم عندما قتل أبواه وأخته الوحيدة ، ولم يفق من الصدمة إلا عندما أحس بأربعة رجال أشداء يقيدون يديه إلى خلف بلا رحمة ، ثم يدفعونه أمامهم بخشونة وهم يركلونه بأقدامهم ، وأفواههم تهدر بأبشع الشتائم..
هذا هو روفين الذي اصطحبه الامير إلى قصره ، ثم ارسل يستدعي القائم على بيت العبيد ، فجاء رجل ناهز الخمسين من عمره ، طويل القامة مفتول العضلات ، غزير الشارب ، أدى فروض الطاعة والولاء في كلمات سريعة اعتاد ترديدها مع حركات اسرع .. وكأنها طقس من الطقوس .
قال الأمير :
خذ هذا ، اسمه روفين لينضم إلى بقية رجالنا ، ويبدو عليه أنه شاب طيب وذكي ، لعله ينفعنا في الأعمال الداخلية.
وامتثل للأمر ، وخرج يتبعه روفين منكس الرأس ، لا يدري ماذا ينتظره ، وإن كانت معاملة سيده الأولى له ، قد أشاعت الطمأنينة في صدره ، إلا أنه لم يستطع أن يتخلص من الشعور بالحذر ، والتوجسّ خيفة .
وكان العبيد في ذلك القصر ينقسمون إلى فرقتين، الفرقة الأولى وقوامها إثنى عشر رجلاً ويعملون في حراسة القصر من الداخل والخارج،والفرقة الأخرى تعمل في الشئون الداخلية له ..
وكتعليمات الملك الصغير ، ضمّ روفين إلى الفرقة الثانية ..
وكان عمره في ذلك الوقت حوالي التاسعة عشر، وكانت صناعته (فخاريا) .. وكان يعلم أننا جميعاً كعجينة في يد الله ، يتولى هو الاهتمام بنا ، وإعدادنا ، كذلك عاش شاكراً ، يشعر أن الله يدافع عنه دائماً ويدفع عنه المتاعب ، وكان يكتنفه سلام عجيب ، وتعلم أن يصلي دائماً في فرح ويشعر أن كثافة هذا العالم لا تقدر أن تخفي عنه الله ، وقد كان مصدر بركة لأسرته وأصدقائه وجيرانه .
إلى أن حل ذلك اليوم الذي أسر فيه .
في سرعة البرق انتشر الخبر بين بقية العبيد ، كعادتهم عندما يفد إليهم عبد جديد ، فإنهم يتناولون ذلك في شيء من الاهتمام واللهفة لمعرفة كل ما يخصه ، لكي يكونوا على بينة من أمره ، وليطمئنوا إلى أنه لن يتسبب في تكدير صفوهم ، بل سيمضي في طريقهم ، وينضم إليهم وينتصح بنصائحهم وينطوي تحت لوائهم .
كان اللقاء الأول بينه وبينهم ، في الحجرة الرطبة (البدروم) التي إعتادوا أن يجتمعوا فيها لاحتساء الشاي وعرض نوادر اليوم وملابساته ، وليبث بعضهم شكاواهم إلى البعض الآخر.
هناك وعلى ضوء المصباح الزيتي الخافت ، دعوه ليشرب معهم الشاي ، إنه حفل تعارف ..
والحقيقة أن هذه هي المرة الأولى لروفين ، التي فيها يجمعه مكان واحد مع إناس من هذا النوع ، وأنتم تعرفون العبيد ، وكيف هم ناقمون على المجتمع ، بسبب أنهم مهملون ومحتقرون في الحياة ، إنهم يحقدون على كل سيد ، ويستبيحون لأنفسهم كل ما تصل إليه أيديهم من مال أو متاع ، يخص سادتهم ، إنهم ينتقمون من كل “السادة” وكل الأغنياء ، ويشعرون بلذة النصرة الخفية ، وذلك أيضاً بسبب القسر الذي يرزحون تحته ، وإن كانوا يُظهرون الطاعة والخضوع لأولياء نعمتهم ، بينما ينهشون في أعراضهم وكرامتهم في غيبتهم ، إنهم يقدمون المديح صاغرين ، وكأن إحترامهم لسادتهم ينتزع منهم إنتزاعاً ، ولذلك فعندما أرسل معلمنا بولس الرسول برسالته إلى تلميذه فليمون ، كتب يقول له “لكي لا يكون خيرك كأنه على سبيل الإضطرار بل على سبيل الاختيار”( فل14). لأنه عرف أن العبيد مضطرون للطاعة ، ولذلك فهو لا يود أن يكون فليمون على نفس المستوى .
عرفوا منه كل ظروفه ، واكتشفوا في حديثه أنه شاب فاضل ، لم يلحقه بعد دنس العالم ، ولم ترتق إليه الشرور التي لحقتهم ، والحقيقة أنهم أشفقوا عليه من أنفسهم ، ومن الحياة التي ستقبل عليه ، كانوا لطفاء ودودين نحوه في تلك الليلة ، بشروه خيراً ووعدوا بأن يمدوا له يد العون ، كلما إحتاج إلى ذلك ، وهو بدوره شكر لهم محبتهم واستقبالهم .
وأدرج في العمل معهم ، وبدا هدوءه وطهره لكل من في القصر ، ووهبوه ثقتهم وعطفهم ، فلم يكلفه أحدهم بعمل ما في الصباح الباكر ، وذلك احتراماً لرغبته في الصلاة ، وهم وثنيون ومع ذلك فقد احترموا مشاعره ومعتقداته ، وأفسحوا له ليعمل مايشاء ، كذلك فقد أوصى الأمير عليه بنفسه ، وأعطى أوامره إلى الطباخ بأن يصنع له ما يطلبه من طعام خاص ، وذلك في الأوقات التي يمتنع فيها عن أكل ما يأكله الآخرون ( يقصد عندما يكون صائماً ) .
وسألوه ذات مرة ، ماذا يقول وهو واقف منتصب القامة رافعاً يديه لأعلى وهو مغمض العينين ، كما إستفسروا منه عن الإشارات التي يرسمها بأصبعه على نفسه، ولماذا لا يحلف ولا يشتم ، ولا يميل إلى القصص التافهة التي يثرثرون بها ، وأجابهم في بساطة وصراحه ، ولم يفهموا ، ولكنهم أحبوه ، نعم .. وإن كان لم يشاركهم لهوهم وخمرهم ، وأحاديث النميمة التي يحلو لهم الخوض فيها كل أمسية .
كذلك هو أيضاً أحبهم ، وغفر لهم نزاوتهم من قلبه ، وإلتمس لهم الأعذار وتمنى لو أتيحت له الفرصة لكي يطلق كل العبيد أحراراً ، كان يحلم بذلك ، ولكنه لم يعلن لهم عن هذا الفكر وإنما كان يسلحهم بالصبر والشكر ، يحدثهم عن إرادة الله وهم لا يعون ما يقول ، ويستمعون في صمت وغرابة وإستخفاف في بعض الأوقات.
إلى أن وقع حادث السرقة في ذلك اليوم الرديء ، تمثال إغريقي من الذهب الخالص، لإله من آلهة اليونان ، كان أحب التماثيل إلى قلب الأمير ، واستشرت الدهشة في جوانب القصر ، وإنطلق الوعيد يدوي في إرجائه ، الموت للسارق إذا اكتشف قبل أن يبلغ هو عن نفسه ، أو يعيد التمثال إلى مكانه .
واكتُشف السارق ، وسيق مكبلاً إلى الموت ، رجل في الاربعين من عمره ، أسمر اللون مكفهر الوجه ممتلئ الجسم منكس الرأس ، قاده الحراس في غير شفقة وهم يركلونه بأقدامهم ويبصقون عليه ويشيعونه بشتائم يستحى منها ..
وإعتصم هو بالصمت، فقد كان أولئك الذين يسوقونه إلى الموت هم شركاؤه ، صمت لشهامة فيه .. واكتفى بأن يموت وحده دون أن يجر غيره معه .
وتهامس العبيد الآخرون في مساء ذلك اليوم فيما بينهم ، ترى من أبلغ عن السارق؟ فهذه ليست المرة الأولى ، فهم لهم عادة في ذلك بين الحين والحين ، يسرقون شيئاً ليبيعونه ثم يقتسمون الثمن فيما بينهم ، فمن عساه أبلغ في هذه المرة .
وأملى الشيطان على ضمير أحدهم أن يتهم روفين ، وأعلن اتهامه على بقية إخوته وأورد أدلة واهية ، إنه ولاشك روفين فهو لا يؤاكلنا ولا يندمج معنا ، له طبعه الخاص ، والأرجح أنه وشى بنا لأنه يكره آلهتنا ..
وثار العبيد دون ترو أو تمهل ، وأقروا ضرورة الانتقام لكبريائهم منه ، واتفقوا على أن يسقوه من ذات الكأس – على حد تعبيرهم – ويردوا له الصاع صاعين ، ولم يكن روفين بالطبع معهم في ذلك الوقت ، بل كان على سطح إحدى البنايات ، يقضي وقتاً في الصلاة والتأمل كعادته ، وانبرى (فلافيان) يعلن تطوعه للقيام بالمهمة وشيّعوه بالتشجيع .
أمام عرش الأمير ، وقف فلافيان ، شاب تجاوز الخامسة والثلاثين من عمره ، طويل القامة نحيف الجسم ضعيف العينين حاد الذكاء ، له مشية غير منتظمة كأنه سكير يترنح .
قال فلافيان : سعدت مساءاً يا مولاي ، الطاعة كل الطاعة لمولاي ، حفظتك الآلهة وأدامت لنا ما نحن فيه من سلام .
قال الأمير : لعلكم مطمئنون
– كل الاطمئنان يا سيدي الأمير ، واطمئن أميرنا الجليل أننا كلنا عيون ساهرة على القصر ومن فيه ، وماجئت اليوم إلا لندرأ عنك خطر يحدق بك.
– تكلم ولا تخفي شيئاً .
– روفين …
… شهق الأمير دهشة ، وسأل في لهفة ، ما عسى أن يكون الأمر ؟
قال فلافيان : لقد خدعنا جميعاً بهدوئه وصمته وإنعزاله عنا جميعاً ، ولكن الآلهة كشفت لنا عن هويته ، فهل يصدق جلالتكم إنه يتآمر عليكم ؟ وإذا لم نتحرك فلن تنجو من الخطر يا مولاي المصون .
وتغير وجه الأمير ، وإشتدت قسمات وجهه قسوة ، فهو يحب روفين ويحترمه وينزله في قلبه منزلة الآلهة الصغار ، وطالما استدعاه ليس لضرورة سوى أن يراه فقط ويشبع من السلام الذي يفيض عن وجهه،ويسمع منه ما يثلج صدره, كان يرغب فيه, ويشعر أنه قد أصبح للقصر مذاقاً جديداً بعدنزول روفين فيه.
ولذلك فقد صعقته المفاجأة..
وانتهز فلافيان ذلك وراح يكيّل التهم لروفين في غيابه, ويوجس الأمير خيفة منه, ويتوسل اليه في مكر, ألا ينخدع بالمظاهر, وأن حياة وسلامة الأمير, رهن وجود لك الشاب على قيد الحياة, إذا روفين هو كبش الفداء !
وتضايق الأمير, وغشت قلبه غمامة من الحزن, ولكن الملوك و الأمراء مستعدين دائماً للتضحية بكل ما يهدد سلامهم و حياتهم, مجرد تهديد, أي نسبة من التهديد يستحق مصدرها التخلص منه .. كما أن الأقوياء غالباً ما يفتقرون إلى الصبر !.
وصرف الأمير فلافيان.
وثقل الحزن عليه, وصلى إلى آلهته أن تعينه على الخلاص من شر روفين, وإبعاد الخطر عن قصره،بيّت أمراً في قلبه, قراراً أتخذه في قلقه و خوفه, وأسرع في أن يجعله موضع التنفيذ.
سمع الحارس في الخارج, صوت عصا الأمير تضرب الصنج المعلق, فهرع إلى الداخل, وركع في حركة ميكانيكية سريعة تعودها مع عبارة الطاعة, وطلب إليه الأمير استدعاء أربعة من عبيد الحراسة الخارجية, سماهم له بأسمائهم..
وبعد قليل جاء الأربعة ينتظرون أوامر أميرهم المحبوب, ولعلهم لاحظوا ذلك السواد الي إحتل صفحة وجهه وتلك العصبية التي يتكلم بها, وقلقه الواضح في جلسته على عرشه, قال لهم:
غدا, وفي تمام الثالثة صباحاً عليكم التواجد في الجرن الكائن شرقي البلدة, هناك توقدون ناراً (آتون صغير) وتجلسون مقابله, تنتظرون شخصاً سيحضر الساعة الرابعة يقول لكم “أرسلني الأمير لتسلمونني ما طلبه منكم” عليكم أن تقيدوه من يديه ورجليه وتلقوه في الآتون, حتى إذا ما أحترق وتفحم, إطفئوا الآتون وإرجعوا إلىّ لتخبروني..
وإنصرف العبيد واجمين ..
وعادت عصا الأمير تصطك بالصنج, وطلب إستدعاء روفين, وجاء روفين هادىء النفس واثق الخطى, يتمتم بكلمات لم يسمعها أحد, ثم وقف أمام الأمير منتظراً تعليماته..
وأبتسم الأمير في وجه روفين, أو بمعنى أدق تكلف الإبتسام, وبنظرة حانية قال له:
انت تعلم كم أحبك, وأثق في رجاحة عقلك وأمانتك واليوم احتجت إلى انجاز مهمة، رأيت أنك أنسب من أكلفه بها.
وأحنى روفين رأسه موافقة, وقال للأمير أنه يعد ذلك شرفاً عظيماً لا يستحقه, وأنه يطلب من إلهه أن يعينه في سبيل خير الأمير و المملكة.
حينئذ أردف الأمير قائلاً: غدا وفي تمام الساعة الرابعة صباحاً, عليك التوجه إلى الجرن الشرقي, هناك ستجد أربعة من العبيد بجوار نار أضرموها, قل لهم (ارسلني الأمير لتسلمونني ما طلبه منكم) ثم إحضر إلىّ ما يسلمونك إياه..
وأحنى روفين هامته مطيعاً وأستأذن في الإنصراف.
ثم مضى مسروراً, يشكر الله على كل شيء ويصلي طويلاً ولا يفتر قلبه ثم فمه عن ترديد كلمات الشكر, وطلب العون و الحكمة, ولم ينم تلك الليلة, فقد خاف إن هو نام, أن لا يمكنه التعب من الإستيقاظ في الموعد اللازم , فسهر.
وصلى كثيراً في تلك الليلة, ورتل بما كان لايزال يحفظه, وتذكر أباة و أمه, وبكى كعادته كلما تذكرهم، وسأل نفسه إن كان سيلحق بهم في الفردوس أم أنه لايزال خاطئاً متوانياً.
وإنصرف من الليل نصفه, وإقتربت الساعة من الثالثة, وقام ليغسل وجهه ويبدل ثيابه – أفضل مالديه من ثياب، وركع ووجهه ناحية الشرق, ولم يسمع أحد ما قاله في صلاته, ولكنه قام منطلق الأسارير باسم الثغر, يحس بنشوة تحتل قلبه, وخرج من القصر, ومشى طويلاً حتى لمح عن بعد ناراً متقدة, وفرح أنه عرف الهدف, وهكذا سار نحو المكان في شىء من الإطمئنان.
+++
في تلك الأثناء كان الأمير يجلس في أحد ابهات القصر وقد انتابه الأرق, وجلس ساهماً يعالج ضيقاً تسلل إلى قلبه, وكان يفكر في الموت الذي ينتظر روفين, فهو يحب روفين ولا يعلم كيف تسرع في الحكم عليه, لقد إنفعل ولم يكن من الصواب أن يتخذ قراراً في غضبه, ثم من أدراه أنه بالفعل مذنب؟ وربما كان فلافيان قد وشى به كذبا؟
وقام يذرع أرض البهو في قلق و الألم يكاد يعتصر قلبه.. ثم همّ بالدخول إلى حجرته, حين أُبلغ بأن العبيد الأربعة قد عادوا يسألون عنه, وأستقبلهم في لهفة وهو يتمنى ألا يكونوا قد قتلوه, ولكنهم خيبوا ظنه بقولهم أنهم أتموا المهمة التي كُلفوا بها, قالوا له أنه تأخر قليلاً وجاء أليهم في السادسة والنصف وأنهم أطفأوا النار حالما تحول إلى فحم..
وتجهّم وجهه.. وصرفهم في جفاء وعاد إلى عرشه, ثم جلس هو يحمل رأسه على كفيه وقد أظلمت الدنيا في عينيه ومادت الأرض تحت قدميه.. ولكن صوتاً همس في داخله, أن لا فائدة ترجى من الحزن وقد قضى الأمر, وأن ذلك لأهون من أن يلحق به و بمملكته الأذى, وحاول أن يلم أطراف شجاعته, ولكن صورة روفين لم تبرح مخيلته, وضغط بكلتا يديه على رأسه, وتمنى- مثلما يتمنى الطفل- أن يكون ما حدث لا يعدو أن يكون حلماً.. ولكنه لم يكن يحلم..
وفيما هو على تلك الحال, استأذن شاب في الدخول إلى الأمير, وسمح له.. وما أن دخل وألقى التحية على الأمير , حتى تجمد الأمير في مكانه, وعقدت الدهشة لسانه, وعاد الشاب يلقي التحية…. إنه روفين! وجحظت عينا الأمير وفغر فاه دون أن يستطيع الكلام وتعجب روفين, ودارت رأس الأمير وكاد يجن … وفي كل هذا لم يفهم روفين شيئاً , بل بدأت الحيرة تنتقل أليه.. ما عسى أن يكون هذا, وتمر دقيقتين, يفيق بعدها الأمير, ويضرب بقبضته على مسند عرشه, ويصرخ مبهور الأنفاس, وتخرج الكلمات متقطعة: ألم تمت.. ألم تحترق.. أأنت حي، أم هو شبحك؟
وفزع روفين وأحس أنه كانت هناك خطة للتخلص منه حرقاً وحاول أن يستفسر, والأمير يصرخ ثم يطرق الناقوس بعصاه وقد هب واقفاً, ثم يهرول اليه الحارس فيأمره بإستدعاء العبيد الأربعة الذين كانوا عنده منذ ساعة ونصف, ويأتي العبيد الأربعة ويسألهم في دهشة كبيرة: ألم تتمموا ما أمرتم به؟
فيحنون رؤوسهم بالإيجاب, ويكررون ما قالوه قبلاً, أنه تأخر قليلاً لكنه نال
قابه.
وينظر الأمير إلى وجه روفين, ثم يحول بصره إلى العبيد الأربعة, ويكاد يطير عقله, وروفين بدوره ينظر إلى الأمير و إلى العبيد في تساؤل و فزع, والعبيد انتقلت إليهم الحيرة و التساؤل.
وساد المكان جو من الفزع و الخوف, ومئات من علامات الإستفهام ترقص في المكان.
ولكن ما لبث الأمير أن هدأ, وصوب نظرة مخيفة إلى العبيد, وكأنه وضع يده على الحقيقة كاملة, فقال بهدوء: صفوا لي الشاب الذي أحرقتموه, فقالوا له: إنه شاب طويل القامة نحيف الجسم, ضعيف العينين يتعثر في مشيته.
فهتف الأمير : الآن علمت كل شىء.
ونظر إليه العبيد وكذلك روفين, في توسل و كأنه قد جاء دورهم في إستيعاب ماحدث.
وصرف الأمير عبيده الأربعة, بينما استبقى معه روفين, وأجلسه إلى جواره, وسأله إن كان قد صدر منه ما أتهمه به فلافيان, فأجاب بالنفي قائلاً :
إن إلهي الذي أعبده , أوصاني بأن أحب كل الناس, وأحتمل الكل وأضعهم فوقي دائماً, وألا أسرق أو أدين, حتى اولئك الذين يسيئون إلىّ , لا أحتقرهم أو أرد لهم الإساءة.
قال الأمير:
ماذا كنت تريد عندما أتيت الآن ولماذا لم تذهب كما قلت لك بالأمس؟
قال روفين:
نعم, كنت أريد أن أعتذر لعدم ذهابي وإتمامي المهمة التى كلّفت بها.
فقال الأمير : ولماذا..؟
قال روفين: قبلما اقتربت من النار المضطرمة في الموعد المحدد، إذا بي أسمع صوتاً يصافح أذني, لم أعرف مصدره ولا هويته.. واختفى ثم عاد مرة أخرى، ووقفت و أرهفت أذني, و إستدرت قليلاً ريثما أتبينه.. إنه آت من الشرق.. نعم إنه رنين.. إنه جرس.. آه ..
لعله ناقوس الكنيسة, كنيسة الدير الواقع على مقربة من البلدة, إنه يعلن بدء التسبحة اليومية التي يعقبها القداس الإلهي, ما أحلاها التسبحة وما أحلاه القداس.. وحدثت نفسي: لأذهبن إلى هناك وأسبح مع الآباء الرهبان..
نعم لقد مر وقت طويل دون أن أحضر القداس وأتناول من الأسرار المقدسة.
وصمت قليلاً و إذا بالأمير يحثه على الإستمرار:
وتذكرت والدي ووالدتي يا سيدي الأمير, وكيف قالا لي كثيراً ألا أترك القداس الإلهي إلى موضع آخر, ومتى سمعت الناقوس فلا تأبه لشىء آخر, ثم تذكرت وصيتك لى بلأمس، وكأنها تصفعني على وجهي لتفيقني من أحلامي, إنها المرة الأولى التي يكلفني فيها جلالتكم بشىء, ويضع فيّ ثقته, فهل يصح أن أخيب ظنك و ثقتك في !. وماذا ستقول عني.. ربما تقتلني ..
ثم عدت لأتذكر القداس و البخور, والقربان المقدس، والألحان.. كل هذا الدسم و الأكل الشهي على المائدة الإلهية ثم أدير ظهري؟!
لا لن يكون شىء من ذلك, ثم عادت صورتك الكريمة تغشي عقلي و فكري وصوتك الجهوري و غضبك, ولا أخفيك شيئاً يا مولاي, فقد تذكرت وقتها اوكتاف.. ذلك العبد الذي عصا أمرك, فطارت رأسه عوضاً, وتذكرت الكسندر وكيف قطعت أنفه, وتراجعت .. نعم جرني الضعف البشري إلى خلف ووبخني !.
وأنهكني التفكير, وصراعاً قوياً نشب في داخلي وراح ينهش, ونزاعاً بين قوى الخير و قوى الشر (إنساني العتيق و إنسان المسيح فيّ) ثم رأيت الإثنان أحدهما في مواجهة الآخر, المسيح بوجهه المبتسم ودمه ينزف, ثم جلالتكم وسوطكم في يدكم وعرشكم يلمع ذهباً.
ثم زال خوفي منكم وإذا بي أهتف داخلي وكأني وصلت إلى المعادلة: من ينقذني من يد الآخر: الأمير أم إلهي؟.. وكانت الإجابة واضحة لا تحتاج إلى دراسة أو تفكير, فإن المسيح الذي مات لأجلي و الذي بين يديه حياتي, يقدر أن يخلصني و ينجيني إذا فكرت في إيذائي, ولكنكم في ذات الوقت لا تقدرون أن تنقذوني من الدينونة متى مت خاطئاً.. قلت و كأني أنهي الصراع: المسيح سيحفظني ويباركني ويدبر أمري مع أميري المحبوب.
وهكذا استراح فكري, وتهلّل قلبي, وقفزت من مكاني وانطلقت نحو مصدر الصوت.. نحو الدير.. إلى القداس الإلهي وأنا مفعم بالسرور والراحة.
وهناك في الدير, تهت بين الحان التسبحة.. وبخور باكر, وإنصهرت في الجو السمائي, سجدت سجدات كثيرة, وصليت كثيراً ووقفت مغمض العينين, لاهج القلب, مرنماً يفيض قلبي بالتعزية.. ولما كان والدي قد أوصياني ألا أترك الكنيسة قبل أن يسرّح الشعب, مكثت هناك حتى صرفنا الأب الكاهن..
وما أن أنتهى القداس, حتى مضيت قاصداً الموضع الذي كانت فيه النار فلم أجدها ولم أجد أحداً إلى جوارها.. بل رأيت رماداً, ومن ثم فكرت في أن آتي لأعتذر لجلالتكم فهلا قبلت عذري!
قال الأمير في سرعة: حدثني عن إلهك.
فصمت روفين قليلاً وأخذ نفساً عميقاً ثم قال:
– هل سمعت عن آدم؟
– نعم في الأساطير.
– بل حقيقة! .. أنه الجد الأول للبشرية جميعها .. لقد أخطأ هذا الجد … و ….
و مات المسيح عنه .. أتدري كيف مات ؟ .. لقد مات مصلوبا عني و عنك و عن كل الناس .. لقد صلبوه .. طعنوه و جرى دمه ليغسلنا من خطايانا ..
ومضى الوقت والأمير لا يمل حديث روفين , و روفين نفسه لا يكف , أنه فرح .. مجرد أن يحكي عن المسيح .. يكرز به و يشهد له ..
و العبيد الأربعة خرجوا من عند الأمير ليرووا للباقين ما حدث .. و قالوا فيما قالوا:
أنهم أضرموا النار و جلسوا إلى جوارها , و ازداد وهج النار واشتدت حرارتها , ووقفوا يرقبون الطريق لعل ذلك الشقي الذي سيحرقونه يأتي .. و لكنه لم يأت .. و الساعة تجاوزت الرابعة , وهو الموعد المتفق عليه .. و قلق العبيد و مرت ساعة و ساعتين و النار في أوج شدتها تصهر من يقترب منها و انتظروا حتى الساعة السادسة و النصف صباحا و هم لا يكفون عن إمداد النار بالوقود , و بدأ الملل و اليأس يرقى إليهم , ثم صعد أحدهم على إحدى التلال القريبة يرقب الطريق , ما لبث أن زفر زفرة قوية و أشار إليهم يطمئنهم أن الفريسة في الطريق إليهم ..
كان موقفا تراجيديا .. فهم حزانى غير راضين عما سيعملوه بأحد إخوتهم , و لكنهم مضطرون و قد يكونوا هم البدائل إذا حدث و عصوا الأمر , و لاسبيل إلى الإعتذار أو التهرب أو العصيان , ثم أن هذه ليست المرة الأولى التي يكلفون فيها بمثل هذا العمل .. و لابد أنهم رثوا لذلك الشاب الذي سيعدمونه حرقا .
ثم ما هي إلا دقائق حتى لاح لهم عن قرب , ذلك المسكين , شاب طويل نحيف , يترنح و هو يمشي , كانوا متأكدون أنه يمشي إلى حتفه و اقترب أكثر حتى صار بينه و بينهم حوالي عشرة أمتار , حين انطلقوا كالأسود الجائعة , و فزع هو , و حاول أن يتكلم .. أن يصرخ .. أن يشير بيديه , و لكنهم لكموه في وجهه , حاول أن يقول أنه ليس هو بل شخص آخر , أنه فلافيان ليس روفين .. و لكن طول إنتظارهم جعلهم أكثر سرعة في إتمام واجبهم , و احتبست الكلمات في فمه و ماتت على شفتيه , ففي سرعة البرق كانوا مددوه على بطنه و أوثقوا يديه و رجليه .. و حاول أن يتخلص من القيد و لكن أحدهم عاجله بضربة بآلة حديدية على إم رأسه , فراح في إغماءة و حملوه كالريشة ثم ألقوه في الأتون .. وفي نصف ساعة كان قد انتهى كل شئ فأطفأوا النار و عادوا إلى أميرهم , يمنون أنفسهم بالهدايا .
و الذي حدث أن فلافيان تقابل عرضا مع روفين في الرابعة صباحا بينما روفين يستعد للخروج من القصر, و أخبره أنه ماض إلى خارج المملكة ليحضر للأمير شيئا من الجرن , و فهم فلافيان أن روفين إنما هو ماض إلى حتفه ..
و منى نفسه بأن يشبع نظره بحفل احتراق روفين , فاختار الساعة السادسة بحيث يكون وقتها داخل الأتون ، ومشى نحو النار إلى هلاكه .
ومنذ ذلك اليوم والأمير يستدعى إليه روفين ليكمل له الحديث الذى بدأه ولن ينتهى..
وبعد هذه الحادثة بحوالى العام يتم بناء الكنيسة الصغيرة – داخل المملكة – من الأخشاب وراهب يأتى من الدير كل أحد ليصلى القداس الإلهى …