استيقظ وحيد هذه الليلة على انين خافت يتلوى في ظلام الكوخ فخفق قلبه الصغير، وهتف ينادي عمته، عمّ الكوخ صمت عميق، ثم ما لبثت الانات ان اخذت تتفاقم وتزداد عمقا ورهبة مع كل دقيقة تمر وكأنه نداء الموت. وقف الى جانب عمته متسائلا:
– نعم يا عمتي انا هنا.
– اضئ القنديل يا ولدي.
نهض وحيد واضاء القنديل الموضوع فوق منضدة قديمة في زاوية من الحجرة، فتراقصت ظلاله وكأنها اشباح هائمة. عادت عمته تدعوه من جديد:
– وحيد تعال يا ولدي.. اعطني يدك. مسكين انت يا ولدي. سأتركك وحيدا في هذه الدنيا. انني في طريقي الى القبر، وليس في وسعي ان اؤجل القضاء المكتوب. ان الحياة تنسل من جسدي لحظة بعد اخرى يا بنيّ.
– عمتي عمتي. لا تتركيني وحدي، اني خائف!
وتكوّر الى جوارها. ثم انحنى على وجهها ولثم جبينها وهو يقول بلهجة مؤثرة وصوت يخالجه نشيجه:
– لا اريد الصرة. اريدك انت!
– خذ الصرة لاني لا استطيع ان احملها الى القبر. خذها يا بنيّ لتعينك على صروف الدهر.
اطاع وحيد وتناول الوحيد الصرة من يدها الواهنة، ومن غير ان يتفوه بكلمة.
فجأة انّت انينا خافتا وقالت بصوت متقطع:
– وحيد دع عيناي تشبعان بمرآك لاخر مرة.. اني اموت.
وفي لحظات خوفه هذه، خيّل اليه ان شبحا انتصب امامه، شبحا ذا انياب حادة، وعيون حمراء ينطلق منها الشرار، يريد ان يلتهمه، فتراجع الى الوراء مذعورا، وفي اثناء ذهوله العميق راح ينادي عمته فلم يجبه سوى عويل الرياح.
***
امام القبر وقف المشيعين واجمين، بدا له الجميع حزين وكأن كل هؤلاء انعكاسا في المرآة له هو نفسه.. عندما تفرق الناس ظل وحيد ذاهلا امام القبر. بدا الطقس له باردا في عالم اكتنفه ليل حالك. وقف جامدا كأنه نصبا تذكاريا نحت من صوّان. انه لا يريد ان يغادر المكان ابدا. لقد قضى طفولته مع عمته التي اصبحت بمثابة والدته، ولن يفارقها الآن. انه سيمكث الى جوارها الى ان يواريه الثرى. انه لا يستطيع العيش بدونها، وخير له ان يموت الى جوارها.
سمع صوتا خفيفا يناديه، واحس بيد حنون تربت على كتفه، فاستدار ببطء وتطلع حوله بعينين هامدتين حزينتين، فلاح له محيّا الخالة ليلى صديقة عمته التي تقطن الى جوارهما، ونقلت الريح صوتها الي مسامعه:
– تعال يا بني، لا يمكنك ان تظل واقفا عند هذا القبر.. تعال معي واقض يومك في منزلي.
وامسكت بيده وقادته الى خارج المدفن.
تردد في بادئ الامر فهو يريد ان يخلو الى نفسه، لعله في استعراض ذكرياته يقوم بعملية تطهير ذاتية تسعفه على تمزيق تلك الصفحة الكئيبة من حياته. فهو ما انفك يعيش في دوامة الماضي لا يستطيع الهرب منها. حاول جهده ان يتفاداها ويعقد معها هدنة، ولو مؤقتة، ولكنها ابت عرضه، وتقدمت بكل ما تدججت به من اسلحة فتاكة..