سمعت الشئ الكثير عنه منذ كنت طفلا، وكان الكثير مما اسمعه يحمل شيئا من المبالغة، او على الاقل هذا ما ظننته عندما كبرت، لكن عندما اتيحت لي الفرصة للاطلاع على سيرته علمت ان ما سمعته اقل من الحقيقة بمراحل ، وقلت عنه ما سبق ان قالته ملكة سبأ للملك سليمان “هوذا النصف لم اخبر به”.
اتيحت لي فرصة للقاء به، وهذا هو الحوار الذي دار بيننا.
قلت: قالوا عنك انك معجزة زمانك في فن النحت والتصوير، وليس ذلك فقط بل لقد بلغ مبلغا عظيما في الشعر والادب والهندسة المدنية والرسم والهندسة العسكرية.. وغيرها من الفروع.
واجاب، دون ان يبتسم ودون ان يصطنع شيئا من التواضع: انني فعلا قد وصلت الى ما لم يصل اليه غيري خصوصا في النحت والتصوير، واذ كنت نلت قسطا من المعرفة يذكر في باقي الفروع – اذا صح ان نسميها فروعا – فذلك لانها جزء من الفن الاساسي ، والفنون جميعا ترتبط معا بالروح الواحد وتنبع من المصدر الواحد، وفي الحقيقة لا انفصال بينهما!
ان النحات والمصور والمهندس موسيقيون يرسلون الحانهم في شتى الصور، وعلى ذلك يمكنك ان تدعوني فنانا، ولك ان تضيف كلمة “عبقريا” ان اردت!
ورأيت من ملامح الرجل انه شخص لا يعرف الا الجد، وخشيت ان اتبسط معه في الحديث بما لا يتفق مع الصراحة البادية في كلامه، وظهر على وجهي التأهب لانهاء الحديث فاسرع يقول:
“كلا، لك ان تتكلم كما تشاء، وسأحاول ان اجاريك في نغمة كلامك. فقط لا تنس انني عشت جانبا من حياتي مع الاحجار، وهذا جعل في طبيعتي شيئا من الصلابة!
قلت: بل اني انتظر ان يكون الامر خلاف ذلك فقد عشت امام صور الملائكة والقديسين، اي امام اجمل ما في الفن من جمال، وقد استطعت ان تجعل الاحجار تلين تحت يدك وتخرج منها اروع موسيقى. نعم انا انتظر ان يكون الرجل الذي اخرج من الاحجار اشكال الملائكة لا يمكن الا ان يكون هو نفسه قطعة موسيقية رائعة.
احمرّ وجه الرجل ولانت قسماته وظهر شبه ابتسامة على فمه وقال: اخشى اننا سندخل اغوار فلسفة لا احبها كثيرا. فلنترك هذا الحديث ولنتحدث كاصدقاء. وننسى الفروق التي بيننا. فهززت رأسي موافقا ثم قلت:
هل تفضل ان تبدأ انت ام ابدأ انا؟ وقبل ان يبدأ، قلت: اعتقد انه من الافضل ان تبدأ انت. على الاقل بحكم السن. فانت قد ولدت عام 1564م. اليس كذلك؟
وتبسم مايكل للمرة الثانية: حسنا، حسنا. وبما انك عرفت تاريخ مولدي ، فقد يهمك ان تعرف مكان نشأتي. هل اقول لك اني ولدت في “كابري” بايطاليا، وتربيت في “فلورنسا” ، ذهبت اليها طفلا رضيعا مع اربعة من اخوتي حين انتقل ابي اليها. وقد رتب ابي امر تربيتي ليخرج مني رجل اعمال، ولكنه كاد يفشل، اذ كنت ابغض الكتاب والكراسة والقلم، ولقد حاول بكل وسيلة ان يحببني في الدروس ولكنه لم يفلح – لا الوعد افلح معي، ولا الوعيد. ما اكثر ما مد يده ليلطمني عندما يضع الورق امامي والقلم في يدي لاحل مسألة حسابية، فكنت اجلس امامه كتلة من الغباوة، فاذا طلب مني ان ارسم صورة فقد كنت اخرج من طفولتي الروائع. وكان ابي عندها ينهال عليّ توبيخا، لانه كان يعتبر انني اضيّع وقتي في الامور التافهة بدلا من الدرس المجدي.
كانت فلورنسا مدينة الفنانين فيما كانت اوربا تعيش في ظلمات جهل القرون الوسطى. كانت تشع بالفن والعلوم. كان فيها الفنانون والنحاتون.. وكل منهم يريد ان يخرج اروع ما اخرجه فنان. وهناك اقسمت ان ارتقي سلم المجد!
قلت: وكيف دخل هذا الطموح قلبك وانت لا زلت فتى؟
فاجاب: لقد سبقت فذكرت لك اني احببت الرسم ورسمت اجمل الصور، وتحدث الناس وانا لا زلت في الثالثة عشرة من عمري عن الفتى الذي صحبه ابوه من كابري.
وتتلمذت على يدي “فرلاندو” اعظم فناني المدينة. وفي احد الايام اعطيت صورة رأس رجل لانسخها ، وقمت بالعمل خير قيام. ولكني لم ارجع الصورة الاصلية بل المنسوخة، فعلت ذلك على سبيل المزاح، لكن النسخة قبلت على انها الاصلية. وقد رويت القصة لبعض الطلبة ووصل الخبر الى اصحاب الصورة واحضروا الصورة الاصلية ووضعوا الصورتين جنبا الى جنب فلم يكن بينهما اي فرق! وانتشرت هذه القصة وتحدث الناس عن الشاب المعجزة في التصوير.
قلت: لكنك لم تحدثني عن مايكل انجلو النحّات، للان؟
وابتسم وقال: سأخبرك بكل شئ، صبرك عليّ!
حدث اني ذهبت الى مدرسة للنحت في حدائق اسرة “مديشي” حيث كان قد جمع “لورنزو” عددا من اجمل التماثيل، واحسست بشغف شديد لان انحت مثل هذه التماثيل حتى قبل ان اتلقى اية دروس. بدأ عملي اولا في الطين المحروق، وحدث ان رأى لورنزو عملي فسر سرورا عظيما واثني عليّ قائلا: دعنا نرى الان ماذا تستطيع ان تصنع بالمرمر. لا يليق بمهارتك ان تضيع في الطين!
تشجعت بالطبع وامسكت بكتلة من الرخام وجربت يدي والازميل فيها ونجحت نجاحا عظيما!
تأوه مايكل وقال: لقد ظل الحظ والشهرة مرافقين لي كل ايام لورنزو!
في نحو ذلك الوقت كان الكارز العظيم “سافانرولا” ينادي برسالة الانجيل ويشجب خطايا المدينة ويطلب من الشعب والحكام ان يحيو حياة افضل. وقد تأثرت من عظات “سافانرولا” تأثرا عظيما، وحولت بعض هذه العظات الى صور، وذه الصور عاشت سنينابل قرونا بعد استشهاد الواعظ الكبير بسبب ولائه لسيده يسوع المسيح!
… تغيبت عن فلورنسا مدة طويلة. ولما عدت قدموا لي كتلة ضخمة من الرخام كانت في الكاتدرائية لم يستطع احد ان يستخرج منها شيئا. كانت مطروحة في مكانها مهملة مدة اربعين سنة ، لم يستطع نحات واحد ان يجد فيها شيئا من الصلاح حتى الفنان الكبير “ليونار دافنشي” قال انها لا تصلح لشئ. ووقفت امام كتلة الرخام البيضاء وكنت افكر، وبغتة اشرقت عيناي بنور. ابصرت كائنا حيا محبوسا داخل تلك الكتلة. كائنا ينتظر من يطلقه حرا. حملت وانا غاية في البهجة تلك الكتلة المهملة وامسكت بالازميل احاول ان افتح الباب للحبيس العظيم. وظللت اناضل لافتح ابواب السجن، ظللت مدة طويلة، وانظر الناس طويلا، ولكني نجحت – شكرا لله!
واقبل الناس ليبصروا ما اخرجته من كتلة الرخام. جاءوا وابصروا وكانت فرحتهم عظيمة. وجدوا بدلا من تلك الكتلة المتروكة المهملة اربعين عاما، شابا جميلا هو الراعي داود في كمال قوته وهو يواجه جليات الجبار!
قلت: الحق اني اخذت من وقتك الكثير، فقط عندي سؤالان- ما هو سر كمال لوحاتك؟ والثاني، ما هو اروع عمل قمت به؟
قال: اني اظن ان في سؤالك الاول شيئا من الخطأ، لانه لا يوجد شئ كامل في العالم. على انك ان رأيت في عملي كمالا فالسبب هو اهتمامي بكل جزء من اجزاء عملي. كنت ابذل جهدي لاصل بعملي الى الذروة. كنت انام في “مرسمي” ومعي ازميلي، حتى اذا ما جاءني ملاك في الحلم، كنت اقوم في الحال امسك الازميل والمطرقة لاخرج الملاك من الرخام.
حدث ان صديقا زارني يوما وقال لي: اني ارى يا ميخائيل انك لم تصنع شيئا جديدا منذ زيارتي الاخيرة. فقلت له: بل عملت، فقد اجريت تعديلات كثيرة في عدد من التماثيل التي تراها امامك. قال: ولكنها اشياء تافهة. فقلت له، قد يكون ما تقوله صحيحا، لكن التوافه تصنع الكمال، والكمال ليس تافها.
اما عن سؤالك الثاني، فاظن ان اروع ما قمت به هو عملي الاخير، واظن الاليق ان اذكر قصته . كنت قد بلغت ذروة الشهرة عندما طلب مني البابا يوليوس ان اصنع تمثالا يوضع على قبره. زظللت سنينا عديدة اعمل، لكن قبل ان افرغ منه عدّل البابا طلبه وطلب مني ان اصور موكب القديسين في كنيسة سيتين في روما. ولما كنت قد تركت الفرشاة مدة طويلة، ولما كان البابا لميدفع شيئا عن التمثال رفضت طلبه وعدت الى فلورنسا. على ان الاصدقاء اجبروني على العودة فعدت ضد ارادتي، ونصبت “السقالات” حتى استطيع ان ارسم في سقف الكنيسة. كانوا قد احضروا بعض النقاشين الاخرين. وهؤلاء لطخوا السقف بما قالوا انه صور جميلة. ولكني طردت النقاشين ومحوت ما صوروه وبدأت ارسم من جديد. وظللت اعمل اربع سنوات ونصفا دون توقف. لاحظ اني كنت ارسم ورأسي منحنية للامام او الخلف حسب الظروف وكنت غير مستريح بسبب ظروفي المالية. والبابا كان يظن العمل سهلا، فهو يطلب مني ان انتهي سريعا.
لم اسمح ان يتسلق احد السقالات ويبصر الصور الا البابا. على انه قبل ان ينتهي امر البابا فجاء الناس ليبصروه. كانوا يرفعون وجوههم ليروا تلك الصور التي لا تزال الى الان معجزة الفن. اما انا فكنت لا التفت الى الناسبل كنت راقدا على ظهري اكمل الصور التي بلغ عددها مائة وخمسة واربعين صورة ،وهي المجموعة التي تكوّن “موكب القديسين”!!
والتفت مايكل انجلو اليّ وقال: اسمع يا صديقي لن اكذب عليك فاقول اني لم اهتم بكلام الناس، او انه لا يهمني مديح الناس. لكن صدقني ما قمت به من العمل لم يكن الا من اجل المسيح، وما وصلت الى هذه المعجزة الا بقوة المسيح!
==
بقى لك يا عزيزي ان تعرف ان مايكل ظل يعمل حتى اخر يوم في حياته. ومات عن عمر يناهز 88 عاما ، وكانت اخر اعماله pieta sistina. كما ان من اشهر اعماله تمثال العذراء المنتحبة وداود الراعي.
موضوعات ذات صلة: