لويس باستير

bio_mini-bios_louis-pasteur_sf_hd_768x432-16x9

انا اليوم احكي لكم قصة “الرجل الذي بكى لالام الناس، ومن ثم فكر ,فكر وعمل جاهدا على علاجها”.

عند دخوله الى مكتبي، مال عليّ وقرأ عنوان مقالي هذا وضحك. اندهشت من رؤيته يضحك وهو الرجل الذي سمعت ان حياته تجسمت دموعا. ظننت اني اخطأت التعبير فقلت، ترى الا يصلح العنوان ليقدم صورة حقيقية لحياتك؟ قال: بل يصلح تماما، فان ما قمت به من اعمال كان الدافع القوي لها قلبي لا عقلي – نعم اني اعملت عقلي كثيرا ولكني ما كنت اواصل بحوثي لولا قلبي الذي عاش بين الجروح غارقا في الدموع. لكني ضحكت لاني عهدتك تهتم بالتأليف الديني لا بالبحث العلمي!!

قلت: هل تقول حقا؟ انا اعلم انك مخلص في قولك هذا، لكنك تجانب الصواب – أليست الديانة الحقيقية تهتم باجساد الناس كما تهتم بارواحهم، ألم يرسل السيد المسيح تلاميذه لكي يسعفوا المرضى؟ وهو، ألم يتجول في الجليل يكرز بملكوت الله ويشفي كل مرض في الشعب؟ وأليست وصيته “اشفوا المرضى” مدونة في الانجيل لكل اتباعه. ارجو ان تعتبر نفسك احد تلاميذ المسيح، لانك قد كرست حياتك من اجل ما وصلت اليه من اعمال مجيدة افادت البشر جميعا!

قال لويس باستير:

نعم ان العامل الاساسي الذي دفعني لتكريس حياتي للعلم هو “المحبة” – محبة الانسان”. وانا استطيع ان ارفع عيناي الى الله واقول “يا ابي السماوي انا احببت اولادك، من اجل هذا بذلت كل جهد لتخفيف متاعبهم، وفي بعض الاحيان تعرضت حياتي لخطر الموت في سبيل ذلك”.

– لكن اخبرني ما هي نقطة التحول في حياتك؟

– اظن ان اتجاهي نحو العلم بدأ منذ صبوتي، نعم اذكر ذلك، واعتقد انه فعلا كان يوما حاسما في حياتي! كنت اتمشى الى جانب احد اساتذتي في احدى طرقات القرية وكان بيده مجهر (ميكروسكوب)، ولما لاحظ نظرة الفضول على وجهي اراني اياه، وجعلني انظر من خلاله الحشرات الصغيرة، وقد اخذت المنظار وطال تحديقي فيه وانا احس اني ادخل عالما غريبا سحريا، في ذلك الوقت قررت ان ادخل منطقة العلم. ادركت انه عالم يستحق ان يحيا الانسان له. وكان شوق قلبي ان اقتني ميكروسكوب خاص بي ابصر ما صنعته يد القدير من معجزات. وقد حصلت على الميكروسكوب وكان بركة لي وللعالم كله.

ثم نظر الي نظرة استفهام. هل اجبت على سؤالك؟

فهززت رأسي بايماءة شكر وتقدير!

عاد لويس يتكلم فقال:

– اما عن “اعمالي المجيدة” كما تقول وهي فعلا مجيدة لانها كانت تتصل بعلاج امراض الناس وتخفيف الامهم. فهناك علاج امراض الجمرة الخبيثة والحميات والحصبة والجدري وداء الكلب (السعار) وغيرها، فهل تريد ان اذكر لك قصة كل مرض ام يكفيك ان تسمع ملخصا عاما؟

قلت: انني ارغب لو في الامكان التوسع في قصة كل اكتشاف،ولكني اعلم ان وقتك لا يتسع لكل ذلك، فهذا يتطلب مجلدات. ولكني اكتفي بأن تذكر لي ملخصا خاصا لكل اكتشاف لا ملخصا عاما كما اقترحت!

قال: سأحاول، ولكني لن اتبع الترتيب التاريخي، بل سأقسم اعمالي الى قسمين: قسم خاص بامراض النبات والحيوان ، وقسم خاص بامراض الانسان، لى اني اذكر ان مسبب المرض في كل الاحوال هو “الميكروب” وقد كان الناس يسخرون من كلامي هذا.. ولم يقتنعوا الا بعد جهد!

اول ما اذكره هو شكوى المزارعين من تعفن الكروم (العنب) عند صناعة الخمور. ولاني اعتقد بالميكروب لذا فقد لجأت الى التعقيم ونجحت التجربة، وقمت بنفس الامر مع اللبن وانت تسمع قولهم اللبن “المبستر” اي المعقم وهي مأخوذة من اسمى كما ترى..

وقد طلبت مني شركات الحرير الطبيعي انقاذ هذه الصناعة ، وذهبت الى حيث تربى “دودة القز” وكان الناس يتساءلون، ما للحرير والميكروبات؟!

ولكني بعد ابحاث عثرت على الميكروب وتوصلت لكيفية القضاء عليه دون قتل الدودة!

وارسل لي احد الفلاحين يستنجد بي ان مرضا غريبا بدأ ينتشر بين اغنامه – وكان مرض الجمرة الخبيثة – فذهبت اليه واعلمني انه مات اثنين وعشرين رأسا من الغنم بالامس.وسألته عما عمل بها. فاجاب انه دفنها بالحقل. فذهبت الى الحقل وجمعت بعض التراب وحملته الى بيتي وسألني الفلاح ، هل ستنقذ اغنامي ، فاجبته باني لا اعرف لكني سأحاول. وبعد تحاليل عثرت على اصل الداء، وتمكنت بعد عدة تجارب من معرفة طرق العلاج ويدهشك ايضا انني توصلت الى طرق الوقاية من المرض. هل احكي لك الكيفية؟

وهززت رأسي وقلت:

– اعتقد انني لن افهم.

ضحك باستير وقال:

– انا لا اريد ان اقول لك انك لن تفهم. ولكن يهمني ان تعرف ذلك الاكتشاف الكبير.

– حسنا، يهمني ان اسمع ما تقول حتى لو لم افهمه.

قال: لقد حصلت على الميكروب من الغنم المريضة وقتلته بالمعقمات، ثم اعطيت الميكروبات المرضية الميتة بواسطة الحقن للاغنام السليمة، ثم بعد مدة لقحت الاغنام بالميكروبات الحية. وكانت المفاجأة ان خلايا الدم نشطت في مقاومة الميكروبات،وشكّلت لديها قوة مقاومة للمرض او مناعة، وهكذا نشأت فكرة التحصين.

قلت: انا الاحظ انك تكلمني بلغة سهلة افهمها.

قال: اذن لا بأس بمزيد من التفاصيل.. توالت التجارب على امراض اخرى.. واعتقد ان اعظم  اكتشاف هو “نظرية الجراثيم” غير ان مرض السعار كان ابرز الاعمال التي قمت بها.

حدث في اليوم الذي برهنت فيه نظرية الجراثيم والتحصين ضد العدوى في الاغنام انني رأيت اناسايقتلون كلبا مصابا بالسعار. واخذت افكر في الامر. كثيرون رأوا ما رأيت ، لكني رأيت وفكرت. كان المعروف ان عضة الكلب المسعور قاتلة لان الدم يتلوث بسم موجود في لعاب الحيوان. وفكرت وقلت لنفسي، ان نظرية المناعة والعلاج عن طريق مصل يستخلص من جراثيم مرض ما، يمكن ان تصلح مع مرض الكلب، لماذا لا؟

لكن كيف يمكن الحصول على جراثيم المرض؟

ان الناس كانوا يقتلون الكلب حالما يكتشفون انه مسعور.. وبعد جهد احضر اليّ كلبا مصابا مربوطا ربطا محكما وسحبت شيئا من لعابه. بالطبع حرصت الا تنتقل العدوى اليّ. وقمت بتجاربي على الارانب ونجحت.

على انه كان يلزم ان اقوم بتجربة اخرى تتطلب شجاعة اكثر- تجربة على انسان سليم.

ولمعت عينايّ وانا احدق فيه متسائلا.

– كلا. لم استطع ان اجري التجربة في الناس.

على انه جاء يوم احضر اليّ ولد عضه كلب وكان يتألم الاما مبرحا . وقالت امه وهي غارقة في دموعها “من فضلك، ارجوك، ارحمني وانقذ ولدي”

وذاب قلبي وانا ارى الولد يتأوهوارى دموع امه فقلت لهما: “اخبريني بمصابك”

قالت “منذ يومين هجم كلب على ابني وعضه وذهبت الى طبيب بلدتنا وهو ارسلني اليك. قل لي اني لم اتأخر. وان الوقت لم يفت لانقاذه”

قلت لها: “علم هذا عند ربي.. وانا سأعمل ما استطيع!”

وكانت هذه هي المرة التي اجري فيها تجاربي على انسان. كان الولد حالته خطيرة. على اني حتى في ذلك الوقت كنت اسأل نفسي ، هل لي الحق ان اجري التارب في جسم انسان؟ كنت مترددا كثيرا!

على ان الولد كان معرضا للموت على اي حال، ومع ذلك فان يدي كانت ترتعش وانا ادخل الابرة في جسمه واسكب قطرات من مادة التطعيم.

وقضيت ليلة ليلاء. ترى هل عجّلت بموت الولد؟

وجاء الصباح ورأيت الولد وقد تحسن بعض الشئ. فسكبت جرعة اكبر من جرعة الامس. كنت انا والاطباء نراقب الولد باهتمام بالغ. ولما انتهت الجرعات المقررة من اللقاح ذي الجراثيم الميتة حان دور الجرعات الخطيرة ، الجرعات ذات الجراثيم الحية،وذلك للتيقن من صلاحية الجرعات الاولى. وكانت ليلة عذاب لي من القلق.

وفي الصباح رأيت الولد نائما نوما هادئا – وشكرت الله كثيرا.

ثم التفت اليّ وقال: انت تقول اني قمت بامجد الاعمال، لكن صدقني اني اغبط المبشرين والكارزين بملكوت الله لانهم يعالجون الارواح، بينما انا لم اعالج الا الاجساد، واين طب الاجساد من طب النفوس؟!

قال هذا وغادر قبل ان اجد الكلمات لارد عليه!