محبة الاب

2_father-hug-prodigal

كان يوسف اصغر ابنين ولدا في بيت هو اكثر بيوت القرية شرفا، وكان عنده الكثير، ليشكر عليه: اسم مشهور، مستقبل عظيم بثراء الوالد. واكثر الكل اب يحب يوسف ويحب اخاه حبا بالغا. الا ان يوسف لم يكن سعيدا. فقد كان يقرأ قصصا عن حياة مثيرة بعيدة عن بلاده. ذات يوم كان يوسف يقرأ احد تلك الكتب وتوقف ودفن وجهه في الوسادة. هذا حرام! عندما اخذ نصيبي من ثروة ابي سأكون قد بلغت من العمر ما يحرمني من الاستمتاع بالثروة. اذن لماذا ابقى في هذا البيت؟ كل من في مثل عمري يتمتع بالحياة. هذا حرام.. هذا ظلم!

وخبط الوسادة بقبضة يده!

وعلى مائدة العشاء كان يوسف مختلط المشاعر: فلم يقرب الطعام. لم تكن هذه اول مرة يتصرف بهذه الطريقة، فقد مضى عليه اسبوعان وهو على هذه الحالة. وقد حاول ابوه ان يتكلم معه لكنه كان يتحاشى الحديث ويقول لا شئ يا ابي انا فقط متعب.

ورأى ابوه الكتب التي يقرأها، وادرك الصراع الدائر داخل ولده، ولكن الاب لم يكن دكتاتورا، ولم يضغط على ولده ليحكي له مشاعره، ولو انه كان مكسور القلب على ما يجري!

وبعد العشاء قال ليوسف:

– لماذا لا تحكي لي يا ولدي ما يضايقك؟

– صعب على ان اشرح لك يا ابي!” وصمت هنيهة ثم حدّق في ابيه وقال:

– انت تظنني صغيرا! ولكنني بلغت من العمر ما يمكنني ان اجرب الحياة. لن ابقى الى الابد هنا. ففي العالم ما هو اكثر من البيت والعائلة.

وصمت الاب لحظة ثم قال:

– ألست سعيدا هنا يا يوسف؟

– لا..

– لماذا؟ ماذا ينقصك؟

وتطلع يوسف من النافذة وقد ارخى الظلام سدوله، وتنهد وقال:

– لن تفهمني ، ربما انت سعيد هنا بسبب عمرك الكبير، ولكن لي افكاري الخاصة. اريد ان احيا كما يحلو لي.

وتطلع في وجه ابيه فلاح الحزن العميق، وادرك انه مخطئ فقد اعطاه ابوه الافضل دائما، ولم يضن عليه بأي تعبير عن الحب. وتمنى لو لم يقل ما قال! غير انه في اعماق نفسه كان يرجو تنفيذ ما قال. وتابع الاب الحديث قائلا:

– ماذا تريدني ان افعل لك؟

فتردد قليلا قبل ان يقول:

– يا ابي، اعطني حصتي من الاملاك.

وهز الاب رأسه في اسى، ومضت لحظات كان فيها زائغ البصر شارد الفكر، ولكنه اخيرا قطع ذلك السكون المطبق وقال:

– لك ما شئت لنلتق صباح الغد.

ولم يصدق الابن اذنيه وقال في نفسه: “اذن سيفعلها. سيعطيني حصتي من ممتلكاته قبل موته”.

وفي صباح التالي جلس الوالد مع ابنيه وقسم لهما املاكه. وفكر نبيل الاخ الاكبر في نفسه هكذا: “كيف يفكر يوسف بهذه الطريقة المهينة”، غير انه لم يقل لاخيه شيئا. وبعد ايام قليلة جمع يوسف كل ما يملك واستعد ليسافر الى بلد بعيدة. وكم تألم الاب من سلوك ابنه الطائش! ولكن بسبب محبته لولده سمح له ان يتصرف بحرية. لم يجبر ابنه على ان يحبه حتى لو كان في هذا اهانة لابيه. وبعد عناق ركب يوسف جمله وسافر. وجعل الوالد يراقب ولده حتى اختفى من نظره، وهو يفكر في نفسه “لن تجد ما تفتش عنه بعد ان تتعب يا ولدي ستعود الي.. حتما ستعود اليّ”. ثم هز الاب رأسه في اسى وقال:

“لن يعطيك العالم يا ولدي ما تطلب. انا فقط الذي اعطيكه.”.  وغابت الشمس وهبت نسمات السما الباردة.

ابتعد يوسف بقدر ما حلى له، واستقر في بلد بعيدة يبدد ماله في العيش بلا حساب! وارتكب ما لم يكن يسمح له والده بعمله. واجتمع حوله اصحاب السوء الذين اوهموه انهم خير صحبة! كان يوسف يخاطب نفسه قائلا “انا غني .. بدون اب وسعيد، فلاعش بالطول والعرض!”. لم يحرم يوسف نفسه اية متعة.

وذات يوم نقل مسافران اخبار مغامرة يوسف الى اهله، فانتشرت قصته في كل مكان، وراح الاطفال في شوارع القرية يغنون سخرية من عائلة يوسف الكبيرة. وعندما سمع الاخ الاكبر اخبار يوسف طار صوابه وعاد الى بيته وصفق الباب خلفه. وجد نبيل اباه جالسا في شرفة البيت يحدق في الفضاء فسأله:

– هل بلغك نبأ الحماقات التي يرتكبها يوسف؟ لقد اعطتيه نصف ممتلكاتك وها هو يبدده على الزواني.

وصرّ على اسنانه قائلا:

– كيف يجرؤ على تشويه اسم العائلة؟ الكل يسخرون منا في القرية! لن يرجع هذا الشقي هنا. لو عاد فسأقتله بيديّ هاتين.

وصمت الاب حتى خرج ولده، فوقف واستند على الجدار وقال:

– عد يا يوسف يا ولدي. لقد غفرت لك. عد الي.

واستمر يوسف يبدد امواله حتى لم يبق له شي.

وزاد الامر سوءا ان مجاعة قد اصابت البلاد وهو بلا اموال ولا طعام. جعل يبحث عن عمل والتقى باحد الاصحاب الذين طالما استضافهم.

– ساعدني يا زكريا ارجوك. اعطني عملا فانا اموت جوعا!

ولكن زكريا تجاهله فقد مضى اصحاب يوسف كما مضت امواله.

وسار يوسف لا يدري ماذا يفعل. ومر بمزرعة فقرر ان يسأل فيها عن عمل.

ولما وجد صاحبها قال:

– انا اموت جوعا، هل عندك اي عمل لي؟

ولكن صاحب المزرعة اجابه بلا مبالاة:

– اسف ولكن مطلوب راع للخنازير، والاجر قليل، والعمل مضن، ولكنه احسن من لا شئ.

وهكذا عمل يوسف في رعى الخنازير! لكم تردى به الحال! لقد امضى لحظات سعيدة وها هوذا يدفع الثمن.

وذات يوم وهو يرعى الخنازير جائعا وحيدا انخرط في البكاء. وقال في اسى: “لماذا لم انتبه لكلام ابي. بحثت عن السعادة ولم اجد سوى الدموع والحزن حتى طعام الخنازير يبدو لي شهيا!” وفي اسف على اختياره الخاطئ جال في ذهنه خاطر فنظر في اتجاه بلده “ماذا دهاني ؟ كم اجير عند ابي يفضل عنه الطعام وانا هنا اموت من الجوع. سأقوم وارجع الى ابي واقول له اخطأت الى السماء واليك! ولا استحق بعد ان ادعى لك ابنا فعاملني كاجير عندك”. وترك يوسف عمله واتجه نحو بيت ابيه.

لم يكن الاب قد نسى ولده لحظة. فكم جلس في شرفة البيت عدة مرات كل يوم يتطلع الى حيث مضى ولده راجيا ان يعود. كان انتظاره لولده يستغرق الكثير من وقته، حتى قال له اصحابه انه يهمل عمله. على ان يوسف لم يرجع. حتى لو جرؤ على الرجوع فان الشريعة كانت تقضي برجمه حتى يموت. وعزم الاخ الاكبر ان يقتل يوسف لو عاد بسبب ما جلبه على العائلة من عار. لكن الاب كان يحب ولده اكثر من شرفه! كان يريده ان يرجع.

كان الوالد يجلس في شرفة يراقب الطريق، فرأى يوسف قادما من بعيد، فامتلأ قلبه بالحنان واسرع يجري نحو والده. نسى الرزانة، نسى تقاليد القرية، وامسك بطرف ردائه وهو يجري بكامل ما فيه من قوة. وتذمر رجال القرية لان الاب غفر للابن الراجع. وامسك احدهم بحجر وصر باسنانه وقال بغيظ عظيم:

– كان يجب ان يعاقبه. اذن فلتسقط الحجارة علي ولده العاق.

واسرع كثيرون يقلدونه وهم يمسكون الحجارة يشتمون. كا ن فكر الوالد مشحونا بمثل هذه الخواطر: ولدي! ولدي! لقد رجع اليّ. يجب ان اصل اليه قبل ان يلحق احد به الاذى. وما ان صل الى ولده حى عانقه واخذ يقبله.

father-playing-with-love-to-his-son-on-fathers-day-wishes-540x524

اما الولد فقد سجد الى الارض وامسك بقدمي ابيه وهو يقول: “يا ابي اخطأت الى السماء واليك ولا استحق بعد ان ادعى لك ابنا.

وقاطع الوالد كلام ولده، ورجع به الى البيت وامر الخدم “هاتوا افخر ثوب والبسوه، وضعوا خاتما في اصبعه وحذاءا في رجليه” وعندما اسرعوا لتنفيذ الامر. ذهب الاب للمسئول عن مزرعة الماشية وقال “قدموا العجل المسمن واذبحوه، فنأكل ونفرح، لان ابني هذا كان ميتا فعاش وكان ضالا فوجد!”

ولم يسبق للخدم ان رأوا سيدهم فرحا هكذا! ولما اصبح كل شئ جاهزا، اقام الاب اعظم وليمة ليؤكد ليوسف انه يرحب به، وليدعو الكل للترحيب به – فقد صفح عنه .. وقال الاب لمدعويه “لقد اساء الي ولدي قبل اي شخص اخر، أليس لي الحق ان اغفر له؟” ووافق الكل على كلامه، وبدأ الحفل.

ورجع الابن الاكبر من الحفل وعندما اقترب من البيت سمع صوت الغناء والرقص فسأل احد الخدم: “ما الخبر؟”

فاجابه “رجع اخوك سالما فذبح ابوك العجل المسمن مرحبا به وفرحا برجوعه”

فغضب ، ورفض الدخول لأنه لم ير للغفران مكانا. فخرج اليه ابوه وربت على كتفه بعطف قائلا “ارجوك يا ولدي ان تدخل. الا تفرح بعودة اخيك”. ولكن الابن الاكبر اشاح بوجهه غاضبا وقال طخدمتك كل هذه السنوات وما عصيت لك امرا، ولم تعطني جديا واحدا كمكفأة لافرح به مع اصدقائي”

وبكل حب واناة قال الاب: “يا ابني، انت معي ، وكل مالي هو لك. لكن كان علينا ان نفرح لان اخاك هذا كان ميتا فعاش ! وكان ضالا فوجد”.

738578936-father-and-son-love-in-park-free-vector

==

وختم الرب يسوع المثل: اقول لكم : “هكذا يفرح الله بخاطئ واحد يتوب”