حكى هانز كريستيان اندرسن في قصة ام حكاية لها معان غاية في الروعة. تقول القصة ان
أحد العجائز دخل إلى بيت أم, والتي لم تهنأ بنوم ساعة واحدة لمدة ثلاثة أيام متتالية بسبب طفلها, والذي كان يحتضر. ولم يلبث دقائق حتى اختطف العجوز الطفل وولى هارباً بسرعة الرياح. كانت صدمة الأم رهيبة, ليس بسبب اختطاف الطفل من قبل العجوز فقط, بل بسبب أن هذا العجوز لم يكن إلا الموت نفسه. الموت متنكراً بهيئة رجل عجوز.
تقرر الأم مطاردة الموت من أجل عودة الطفل الصغير للمنزل, تواجه الأم عدة عقبات بسبب سرعة الموت الرهيبة. يظهر من هذه العقبات مدى شوق الأم لابنها, هي أم, ولا تريد أبداً أن تسمع شيء عن الفراق بينها وبين الطفل. تاهت في وسط الطريق ولم تعرف أين ذهب الموت بنوارة قلبها. في طريقها تجد الأم امرأة متشحة بالسواد – لم يكن سوى الليل – تعرف الطريق الذي سلكه الموت.. يرفض الليل البوح بمكان الطريق الذي سلكه الموت حتى تغني الأم كل الأغاني التي أنشدتها للطفل الصغير وهو في المهد. غريب أمر هذا الليل! لم يكن هذا الطلب بسبب الأغاني ذاتها, بل بسبب الدموع التي سكبتها الأم طيلة الأيام الماضية وهي تغني لصغيرها. لم تكن الأم مهتمة بالأغاني, تريد أن تعرف الطريق الذي هرب به الموت مع صغيرها. يصمت الليل حتى تقرر الأم الغناء: وتغني الأم, ممسكة يديها, كان هناك الكثير من الدموع, والكثير من الغناء.
تواصل الأم السير في خطى الموت بعد معرفة الطريق من قبل الليل, وتصدم مرة أخرى بعقبة مفترق الطرق. كان هناك هذه المرة شجرة شوكية تعرف الطريق الذي سلكه الموت, ولكن, كما الليل, يريد خدمة مقابل أن يفضي بسر الطريق. الخدمة هي: أن تضم الأم الشجرة الشوكية وتدفئها, فهي حسب قولها ميتة من البرد وتحس بالتجمد. لم تتردد الأم لحظة واحدة, فضمت الأم الشجرة الشوكية إلى صدرها حتى انغرست أشواك الشجر وسط جسدها. تحولت أشواك الشجرة إلى أغصان خضراء, وأزهرت في الشتاء البارد. هذا ما يفعله قلب الأم الدافئ.

ضمت الأم الشجرة الشوكية إلى صدرها حتى انغرست أشواك الشجر وسط جسدها. تحولت أشواك الشجرة إلى أغصان خضراء, وأزهرت في الشتاء البارد.
تستمر رحلة المطاردة وعقبة أخرى تقف في طريقها: إن هي أرادت الاستمرار في طريق الموت والطفل يجب عليها أن تتخطى بحيرة كبيرة, أن تسير عليها, وهذا مالا تقدر عليه, أو تشرب ماءها كله, ولن تقدر عليه بحال من الأحوال. اشترط البحر كما فعل الليل والشجرة خدمة كذلك. طوال تلك الرحلة الطويلة, كانت الأم تضحي بكل ما تملك في سبيل الطفل: بكت حتى سقطت عيناها في البحر لؤلؤتين نفيستين, قصت شعرها الأسود وأهدته لعجوز طاعنة في السن .. ويتفاجئ الموت أن أمامه الآن الأم. قطعت مسافات طويلة من أجل هذه النبتة المغروسة في حديقة الموت: طفلها. كيف استطاعت أن تصل إلى مكان الموت قبل الموت نفسه, صاحب الحديقة؟ كان جوابها مفحماً بكلمة واحدة: أنا أم! قد لا تستطيع الأم أن تقف أمام الموت, ولكن رحمة الإله قادرة على صده. أنا مؤمن بأنها تمثل الصوت الحي لأغنية جين ستينمان: قد تعرف كيف تهمس, وقد تعرف كيف تبكي, وتعرف تماماً أين تجد الإجابات, وتعرف متى تكذب, وكيف تتصنع, وتعرف تماماً كيف تكيد لأعدائها, وتعرف طريق المال, الشهرة, تعرف كل القوانين, وكيف تكسرها .. لكنها لن تعرف, ولن تعرف على الإطلاق كيف تتخلص من يديه, ولن تدعه يسقط من يديها .. لأنها أم!
نهاية القصة من أروع النهايات التي قرأتها, والمختصة تحديداً بعلاقة الأم و الأبناء, وتبيان حالة العشق والهيام التي وصلت لحدودها القصوى : يا رب .. لا تستجب لدعواتي عندما تكون ضد مشيئتك التي هي الأفضل لنا دائماً، لا تستجب لها يا رب.