راهير البهلوان

claw

اسمي راهير، ولدت وتربيت في مهد الفقر وكنت العب مع اندادي من الاطفال، وكان ابناء الاسر يحاولون ان يغيظوني فكنت ارد اساءاتهم عن طريق المزاح، وكان مزاحي مقبولا، وقد كنت ابتهج باستقبال السامعين له، ودفعني ذلك الى ان احلم اني سأصبح يوما مهرجا في القصر الملكي.. وتم حلمي فدعاني الملك اليه وطلب مني ان ارد على اترابي بمزاحي ، وكان الملك والملكة يسران كثيرا من النكات التي كنت القيها وقد عرف عني اني اثأر لنفسي بالقول اللاذع الذي لا يخرج عن حدود اللياقة. وكنت اتطاول في بعض الاقات على ذوي المقامات العالية ممن كان الملك يسر ان يمسهم بتعنيف. وبعد ذلك اشتهرت باسم “المهرج الملكي”. ينبغي ان اعترف ان نكاتي لم تكن كلها خفيفة الظل او مقبولة. كلا فان بعضها، بل اقول، كان اكثر سخيفا وثقيلا، وكانت بعض الكلمات نابية وغير لائقة، ولكن القوم كانوا يضحكون ضحكات عالية من كل ما اقوله، بل كانوا يضحكون من مجرد رؤيتي حتى قبل ان افتح فمي، كعادة الناس في استقبال كلام المهرج.

كان الناس يظنون اني اسعد انسان لاني كنت اضحك طول اليوم، وكان فمي مفتوحا في ابتسامة عريضة باستمرار. لكن الحقيقة كانت غير ذلك، لم تكن ابتسامتي تزيد عن حركة آلية لفمي، وضحكاتي لم تكن تخرج مما هو اعمق من لساني.

clown5

ما اكثر الليالي التي قضيتها بطولها باكيا، كنت ابكي حياتي التافهة ماذا كنت؟ لم اكن احتل في المجتمع الا مكان “القرد”!!

على اني بدأت بالتدريج اعتاد الوضع الذي وجدت نفسي فيه، ورأيت في تهريجي “عملا” اكل منه لقمتي، بل بدأت استسيغ نفس العمل واتفنن في ابتكار المزحات الجديدة والنكات المستحدثة ، وظللت في عملي المقيت هذا سنينا طويلة وكان يمكن ان اظل فيه الى منهى ايامي، ان اعيش مهرجا واموت مهرجا!

clown3

كان يمكن ذلك لولا… نعم لولا حادث صدمني صدمة عنيفة زلزلت كياني وقلبته رأسا على عقب. فقد غرقت السفينة البيضاء وغرق معها ولي العهد، لم يعرف القصر منذ ذلك الحادث السرور، لم يبتسم الملك ابتسامة واحدة منذ ذلك الحين، لبس القصر السواد حسا ومعنى، وانعكست هذه الظلال عليّ، وتساءل الناس ، هل كان حزني على الامير وعلى من غرقوا معه، اما ان السبب كان اني فقدت وظيفتي في القصر، فانقلبت من البهجة الى الكآبة، ومن الابتسامات العريضة الى تقطيب الوجه فالقلب. اعتقد انه لا مكان لهذا السؤال ، يكفي ان تعرف اني صرت شخصا اخر، لا يبد شبح الابتسامة على وجهي او تجئ كلمة مرحة على لساني!

لم يندهش الناس من التغيير الذي طرأ علىّ ، ولو انهم كانوا متيقنين ان ذلك التغيير لن يطول امده، سأعود عندما تحين الفرصة الى مرحي ومجوني. ولكن انتظارهم طال. بل زاد اندهاشهم عندما سمعوا انني سأقوم برحلة دينية الى الاراضي المقدسة. كان هذا الخبر اعظم نكتة لهم. اذ من ذا الذي يخطر بباله ان ذلك اللسان الذي انطلق في السخرية والهزء والكلام الماجن الى اقصى الحدود يجنح الى الصلوات والتعبد. ومن ذا الذي يخطر بباله ان الرجل صاحب الحركات البهلوانية يتحول الى صاحب ساجدات وتهجد. ومن ذا الذي يظن ان الشخص الذي عاش عيشة القرود يمكن ان يعيش عيشة القديسين. كان الامر نكتة في نظرهم، لان الحج الى الاراضي المقدسة لا يقوم به الا اتقى الناس وانقاهم.

وحدث وانا اتهيأ للعودة ان اصبت بالملاريا واضطررت ان الجأ الى مستشفى “الينبوع المقدس” – وهناك اشتد المرض عليّ واحسست اني اقتربت من النهاية. وفي يأسي وخوفي نذرت لله انه اذا ابقاني على قيد الحياة وعدت سليما الى بلدي اني اقيم مستشفى نظير هذه المستشفى التي اعالج فيها واخصصها لمعالجة الفقراء. وسمع الله صلاتي وقبل نذوري وبدأت استعيد صحتي!

وقد انتهيت في عزمي، اقول هذا لان عزمي كان مخلخلا ، فقد كان عزما وحيدا من الاول لكني اقول ذلك بمعنى اني ثبت ذلك العزم واكدته لنفسي في احدى الليالي بعد ذلك بقليل. فقد ابصرت نفسي في الحلم – وكان حلما مخيفا – نعم، ابصرت نفسي واقفا على حافة حفرة لا قرار لها. كان الامر مروعا: ولكني ابصرت شخصا مهيبا واقفا مقابلي. وقال “انا برثولماوس الرسول وقد اتيت لانقذك من ضيقتك. والان اعلم انك ستبني كنيسة ومستشفى باسمي في حي “سميث فيلد” اما عن النفقة اللازمة للبناء فلا تنشغل بها. كل ما اطلبه ان تجتهد في العمل وستكون كل النفقات عليّ.

لم احس بأى قلق من جهة تكاليف المستشفى ، لان الصوت الذي جاءني  لم يطلب مني سوى الطاعة والتصميم.

وهكذا ذهبت انا “راهير” رجل الحاشية المرح، الى سمث فيلد لابدأ العمل العظيم . بدأت انقل الحجارة المبعثرة بيدي واقلع الاعشاب والاشواك واحاول ان اسوي الارض. كان منظري مضحكا .. شخص يريد ان يحول برية الى بستان، نظر المارون في الطريق اليّ وهزأوا وهزوا رؤوسهم ساخرين. ولكن الاولاد الذين كانوا يلعبون بالجوار تصادقوا معي وحاولوا ان يمدوا يد العون، واخبر الاولاد اهاليهم عما يقوم به المهرج الملكي السابق. بدأوا يأتون لمساعدت. احضر احدهم حصانا وعربة لنقل الاحجار، وارسل اخر شابين مفتولي العضلات ليعاوناني واخرون ارسلوا تقدمات مالية.

وكنت اقول لجميع من يأتون اليّ ان المشروع هو مشروع الله. فاننا نحن الذين حبانا الله بالصحة والقوة ينبغي ان نعمل هلى رعاية المرضى والمحتاجين. وبلغت اخبار المستشفى نصف سكان مدينة لندن وتأثر الكثيرون من عزيمة المهرج الذي امن برؤياه. وجاء هؤلاء يعرضون مساعدتهم، وكثيرون من رجال الحاشية جاءوا ليسخروا، ولكنهم ما ان سمعوا مني عن المشروع حتى قدموا عطايا سخية. وهكذا ارتفع البناء وظل يرتفع الى ان اكتمل، كنيسة ودير ومستشفى دعيت باسم الرسول برثلوماوس.

كان اول من تطوع للخدمة صديقي “الفيون”، كان يحمل سلته الكبيرة ويجول يجمع من الجزارين اللحوم للمرضى، وكانت المستشفى ترحب بالمرضى وتقدم لهم الفراش والطعام والعلاج.

انتقلت من هذا العالم سنة 1144  م ولكن سيدي بالطبع ظل يعمل على تحسين وتوسيع المستشفى وربما نسى الناس اسم “راهير” ولكن سيدي لن ينسى ، بل قد قال “كنت مريضا فزرتموني”

القس لبيب مشرقي

أضف تعليق