مولوكاي – 1

molokai

كان توهج الشمس المقرون بهبات النسيم القادمة من البحر الشاطئ يثير غلالة من الرذاذ الرطب تحبس الانفاس. وكان الضوء الذي يسقط مباشرة على ارض مملوءة بظلال اشجار المانجروف الملحية يعطي الناظر شعورا كاذبا بالعظمة الهادئة المتأملة. على قمة ربوة مطلة على شاطئ البحر وقف الاب دميان ، وراح يتأمل في المنطقة حوله، ماحيا خطوطها العريضة، دافنا اشكالها في اعماق العقل كأنها جبل شامخ. ثم فجأة وقع بصره على فتاة انطلقت في سفح الربوة تعدو، بينما يعدو وراءها اثنان من رجال الشرطة يحاولان الامساك بها.

– “اذهبوا إلى الكاهن” قال الضابط لشرطيان اخران ، بينما ظهر في سفح الجبل الفتاة تركض حتى وصلت الى الاب دميان ثم بصوت متوسل قالت:

– ابي, ابي! من فضلك اخفيني.

التفت الاب خلفه فرأى الشرطيان يعتليان صهوات حصانيهما يتجهان نحوه. فبسرعة ازاح بالقرب منه كمية من الحطب والقش وخبأها اسفله. حين وصلا الرجلين لامس احدهما باصبعه حافة قبعته وانحنى وهو يحي الاب:

– مرحبا ابي! .. اين هي الفتاة؟

– انا اعمل..

كان الكلب اسرع من اجابة الاب فقد توصل الى مكان الفتاة وراح ينبح بقوة. اسرع الرجلين فسحبا الفتاة من اسفل الكومة.

اوقفت الفتاة امامه. راح الضابط من قامته الطويلة يحدق في الفتاة ثم هز رأسه وهو يقول:

– إنها قد أصيبت بالبرص.

ثم تابع كلامه بنفس الهدوء: ستختبرين مرة أخرى في هونولولو. إذا كانت سليمة، سيتم إطلاق سراحها.

قال الاب وهو يهتف:

– هنا يسمونه الجذام. لكنه ليس الجذام على الإطلاق.

ولكن ما من احد كان يبالي بما يقول.

-2-

في العيادة وقفت الفتاة لاجراء الفحص الطبي عليها. كانت ترتدي ثوبا كتانيا فضفاضا، وقفت منتصبة وكانها تمثال من قد من رخام. ومن الصعب ان تدرك ما كانت تفكر فيه. من الواضح انها كانت تريد شيئا بسيطا. ابسط المستحيلات. وكان الموقف مخيفا فلم يرى منها سوى ابعاد ثوبها الكتاني الفضفاض، ووجهها البيضاوي الصغير، ولألأ اسنانها البيضاء، وعينيها السوداوين الواسعتين وهما متجهتان الى الطبيبين. تجعلك نظرتها الزائغة تتساءل هل هى عمياء، ام هى شعاع فقد طريقه في فضاء الكون. كانت اكثر استغلاقا على نفسها، وهي، على ما هي عليه، من جهل الطفولة وبراءتها. تجعلك تتصور الصورة التي كانت في ذهنها عن العالم الخارجي، التي كانت لا تعرف منه الا انها فتاة غدر بها المرض.

جلس الطبيب الى مكتبه يسجل نتيجة الفحص. بينما طبيب اخر راح يفحص الفتاة. كان يمسك بعصا رفيعة وضعها على كتف الفتاة وازاح بها طرف ثوبها المشقوق عند رجليها. كان جل اهتمام الطبيب الموضع الذي يتكشف من جسدها ليقرر بعدها ما اذا كان ما يراه من علامات المرض على جلدها، هو للجذام ام مرض جلدي اخر. بعد لحظات تنهد وهو يخاطب رفيقه:

– هذه الفتاة عندما تم فحصها لأول مرة، كان لديها بقعة واحدة فقط على الفخذ الأيمن، بقعة ذات لون مصفر أرجواني.

ثم تابع كلامه وهو يشير بعصاه الى كتفيها، فسقط  ثوبها وبحركة تلقائية بسيطة نابعة من فطرتها امسكت ثوبها فحفظته من السقوط تماما على الارض ثم عادت الى جمودها:

– ولكن البقعة ليست موجودة الآن. ثم اعقب: كانت ثمة بقعة هنا.

وجه سؤاله للفتاة:

– منذ متى هذه البقعة موجودة؟

– منذ شهر.

– حسنا، لقد حصلنا على جميع أعراض المرض. البقع تأتي وتذهب. كما انها تفقد الاحساس بأصابع قدميها، واي مصاب هكذا حتما يجب ان يرسل إلى “مولوكاي”. اغلق الملف وتناول ملفا اخر وهو ينادي بلا مبالاة:

– المريض التالى يدخل!

أضف تعليق