ان قلبي يتجه بكلياته نحو ديانة المسيح. هنا اﻻيمان الحقيقي الذي يهب النفس السلام والبر والتعبد والخلاص. خير للمرء ان يبقى في جن المسيحية الصغيرة متمتعا بشذى ورودها ورياحينها، من ان يبقى في صحراء الهندوسية الشاسعة، برمالها المحرقة ووديانها السحيقة واشجارها الغبياء واشواكها القاسية وابارها المرة.
انتم تعلمون الصعوبات القاسية التي يتعرض لها من يحاول ان يستقصي غنى كنوز الكتاب المقدس في نور فكره الذاتي. انه يجد معجزات المسيح تقف في وجهه. نعم، بذهنه البشري قد يمكنه من اﻻيمان بيسوع ابن اﻻنسان، ولكنه ﻻ يستطيع ان يقبل المسيح ابن الله. انه قد يقبل حادثة صلب المسيح، ولكنه ﻻ يصدق حقيقة قيامته. ما هي الطريقة التي تنجح في ربح هذا الشخص؟ .. اعنقد ان تصلي معه ﻻجله.. نور العقل قد يعجز عن القاء الضوء على هذه اﻻسرار الغامضة ولكن نور اﻻيمان يسطع على الزوايا المظلمة فيحيل الظلام ضياء ويملا القلب سلام.
انتم تعلمون ان عدو الخير ﻻ يسكت فهو يثير حول الشخص حديث اﻻيمان زوبعة قاسية. فقد عرفت الحق ولم يمض سنة. حول هذا اﻻنسان يجتمع لفيف من الكفرة والملاحدة والمتشككين والهراطقة ويصمون اذانهم فيصبحون كالحيات الصماء التي ﻻ تنفع فيها رقي ثم ﻻ تنفك تنقلب غادرة تنفث سمومها القاتلة.
ولقد ابتليت بمثل هذا الجمع منذ اﻻسابيع اﻻولى التي ذاع فيها خبر اعتناقي المسيحية. جعلوني هدفا لسخريتهم المرة. ثم تطور اﻻمر فبداوا يقارعونني بالحجة والمنطق. قالوا عني اني مجنون ﻻني اصدق معجزات المسيح. وكنت ارد عليهم بالقول: ان معجزات المسيح هي اصدق دليل على صدق المسيحية. ﻻنها لم تنته بانطلاقه الى المجد، فهو ما زال يجريها الى اليوم. او لست انا معجزة حية من معجزاته؟ تطلعوا الي مليا! ماذا كنت من عامين؟ او لم اكن عدوا لديانة المسبح؟ هذا القلم لذي ترونه يكتب مدافعا عن حق المسيح، كم من الصفحات كتبت ضده مدفوعا بروح الحقد والمرارة؟ وهذا اللسان الذي ينادي اليوم بمحبته ، كم صب في الماضي وابلا من اللعنات والتجديف على اسمه القدوس؟
اني انا نفسي اتعجب من نفسي. ما حاجتي بعد الى معجزات؟!
لم اكن اقصد بالمرة ان اصير مسيحيا.. كنت احلم بانني ساضع ديانة جديدة*.. ليس للهند وحدها بل للعالم اجمع!
- في الهند يمكن ﻻي شخص ان يضع اي مجموعة من المعتقدات ويسجلها رسميا على انها ديانة. فقد قام في القرن الذي عاش فيه تيلاك شخص يدعى راموهون روي واسس “البراهما سماج” او كنيسة الله التي تعترف بسمو تعاليم المسيح ولكنها تنكر الوهيته. وفي عام 1858 انشق على هذه الهيئة شخص يدعى “كوشاب صن” وادخل تعديلات اخرى، وكون هيئة جديدة. وفي عام 1878 تكونت هيئة اخرى تدعى “ساداران سماج” التي تقول في قانون ايمانها: اله واحد. كتاب واحد. ابوة الله وامومته. واخوة البشر. هدف اﻻنسان اﻻسمى اليوجا. ونلاحظ من هذه الهيئات مع اعترافها بالمسيح اﻻ انها تريد ان تكون لنفسها مسيحا هندوسيا يمزج تعاليمه باﻻفكار الهندوسية وﻻ يتعارض مع تعاليمها اﻻساسية
كانت امي تقية .. وهذا يحملني على اﻻعتقاد ان في اﻻنسان الطبيعي قبس من نور الله.
واني اذ اعود الى ايام الدراسة اشكر الله ﻻن معلمي لم يكونوا من الهندوس المتزمتين الرجعيين. كانوا اناسا متسعي الصدر وواسعي الفكر. وهذا ربى فيّ ملكة التفكير الحر الطليق. ولم يقدّر لي ان اقع تحت سيطرة انسان يرغمني على منهج خاص في التفكير. وكنت متدينا بطبيعتي. وكنت اعتقد ان كان هناك نجاح يرجى للهند، فلابد ان يكون من باب الدين. وهكذا كرست وقتي لدراسة الدين والفلسفة..
واخيرا التقيت بمعلمي “اباصاحب” وتتلمذت 3 سنوات كاملة على يديه اغترف من بحر علومه الواسعة وتعبده الحقيقي. واخيرا كونت لنفسي فلسفة خاصة هي اساس ديانتي الجديدة، وهي:
اوﻻ، ان خالق هذا الوجود ﻻبد ان يكون روحا ذاتيا، كائنا عطوفا، يعتبر البشر جميعا ابناء له..
ثانيا، ان جميع الكتب المقدسة (يقصد الفيدا) هي من صنع البشر، وﻻ يوجد سوى كتاب واحد حقيقي: الطبيعة!
ثالثا، ان فكرة تناسخ اﻻرواح فكرة باطلة.
رابعا، ان الجوهر المشترك بين اﻻديان، هو اخوة البشر، واﻻيمان بالله.
خامسا، ﻻ خطية تعادل خطية عبادة اﻻصنام.
فلو قدّر لي ان اشرح هذه العقائد واقوم بتبويبها، واتمكن من تاييدها بالرجوع الى الكتابات القديمة وسير حياة القديسين، واضرب اﻻمثلة الكثيرة لشرحها، ﻻصبحت علما واعتبرني اﻻخرين قديسا قام ليهدي الجيل الحاضر. وهكذا وضعت الخطة وبدات في تنفيذها.
بدات ادرس حياة الكثير من الذين تركوا تاثيرا كبيرا على معاصريهم.. اسقطت من اعتباري الكثيرين ولم يبق امامي سوى بوذا، اذ وجدت في حياة هذا اﻻمير الحكيم ما شدني اليه. وحاولت التمثل به متحاشيا اخطاءه.. ولم يخطر ببالي دراسة حياة المسيح او الكتاب المقدس. ربما ﻻن لغة اﻻنجيل سهلة، وقد كنا – نحن الهندوس – نبحث عن الكتابات المعقدة التي تتطلب جهدا وفيرا. فنحن نهيم ولعا بالكتابات المقدس في لغتها اﻻصلية (السنسكريتية) ولكني اعتقد انه لو ترجمت هذه الكتابات الى لغتنا الحالية ﻻلقينا بها كاشياء عديمة القيمة.
وهذا هو ايضا السبب الذي يجعل الشعب يقف خاشعا في صحن المعبد، خلف الكاهن، يصغي اليه وهو يردد عبارات غير مفهومة. مع ان هذه العبارات لو ترجمت، ﻻنفض الناس من ورائه، وتركته ينعي من بناه!
هناك ايضا سبب اخر، هو ان اﻻدب المسيحي في اللغة الماراثية ضعيف جدا، ..
في عام 1893 كنت استقل القطار الى عملي. كنت احمل كتابا يحوي قصائد (اغتية الله The song celestial) باللغة السنسكريتية اقرا فيه. بدأ ان الشخص الذي يجلس مقابلي يعرف شيئا عن اصول هذه اللغة. فتحدثت معه طويلا عن الشعر .. ثم ادار صديقي دفة الحديث بكل لياقة وبدا يسالني عن رايي الخاص في المسيحية. فبدات اطلعه بامانة على كل شئ. واخبرته انني اريد ان اضع اسس فلسفة ديانة جديدة. واطلعته على المبادئ الرئيسية فيها. وعندها قال لي: “اؤكد لك انه لن يمضي وقتا طويلا حتى تصير مسيحيا”.
وقعت عليّ هذه الكلمات وقع الصاعقة. واعتبرته مجرد هراء!
عاودنا الحديث مرة اخرى في موضوعات دينية كثيرة. واختتم صديقي كلامه قائلا:
“ايها الشاب، ان الله يجتذبك اليه.. ادرس اﻻنجيل. اتخذ حياة المسيح مقياسا لك”. ثم اخرج من جيبه نسخة من الكتاب المقدس. ولم استطع ان اقاوم لطفه. تناولت النسخة باشمئزاز – وانا العن في قرارة نفسي المسيح وديانة المسيح. ومن الغريب ان احدنا لم يسال اﻻخر عن اسمه او مكان سكناه.
.. بدات اقرا الكتاب المقدس من اول كلمة الى ان وصلت الى الموعظة على الجبل. بدا لي في تلك اللحظات ان اﻻف اﻻسئلة التي تحير خاطري، قد وجدت حلها في هذه اﻻصحاحات الثلاثة من انجيل متى. حتى مشكلة تناسخ اﻻرواح استطعت ان اجد لها حلا في الموعظة على الجبل.
تحققت نبوة صديقي بعد عامين ، اذ اعتمدت!
وسرت اخبار معمودية تيلاك سريان النار في الهشيم. كانت اول بلدة تسمع عنها هي بلدته “نازك”. وتحكي زوجته عن ذلك فتقول:
جلست مقابل زوج اختي. كان يتحاشى النظر اليّ، .. وحدث ان عيوننا تقابلت، وحاولت ان اساله مستوضحة اﻻمر. ولكن الكلمات اختنقت في حنجرتي. اما هو فقد تدحرجت على وجنته دمعة كبيرة مسحها بمنديله. وﻻحت مني التفاتة الى ابني “داتو”. رايت الكل يتلقفونه ويعطفون عليه كانه يتيم. ولما رايت هذا غامت الدنيا امامي، واصطكت ركبتاي، وكدت اسقط على اﻻرض مغشيا علي!.
كان الخبر (تحول تيلاك للمسيحية) قد وصل اليهم قبلي.. وبدأت النسوة في تعزيتي ومواساتي. كانت تعزياتهن لي كالماء المسكوب على قدر مقلوب. وجلست بينهن جامدة كالصخر. لم استطع ان اذرف دمعة واحدة، وشعرت بجفاف قاس في حلقي.
ولما اسدل الليل ستاره بقيت معي قريباتي ليقضين الليل بجواري. لم تذق احداهن طعاما وﻻ شرابا ولم تنطق احداهن بكلمة. وفي سكون افترشت كل واحدة ما استطاعت ان تجده من الثياب البالية، وغرقن في نوم عميق.
وكنت انا في وسطهن. كان يحيط بي من الجانب الواحد اخي خشاف. ومن الجانب اﻻخر فيكو، وقد احاط كل منهما عنقي، بذراعيه. وحوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل اسدل النوم ستاره عليهن. فتخلصت في رفق من اذرعهما. وقمت من مرقدي. وبحثت عن ابني “داتو” فلم اجده امامي. ولم اهتم بذلك كثيرا. بل اسرعت نحو الباب. كان قصدي ان اسرع متخفية الى اقرب مكان في النهر. وانهي حياتي هناك. ولكنني ما كدت ارفع المزﻻج حتى سمعت صوت رجل البوليس ينادي زميله هاتفا:
“سلام!” فير اﻻخر بالتحية. وبدا لي خاطر جديد، .. وهكذا تسللت راجعة الى الداخل مرة اخرى، واسرعت الى البئر، ولكنني قلت في نفسي: ان جثتي ربما بقيت مدة طويلة قبل ان تكتشف. وفي هذه اﻻثناء ماذا سيفعل اخي وزوج اختي. وهكذا ابعدت عن نفسي فكرة اﻻنتحار وعدت الى فراشي.
وكم من المرات – خلال خمس سنوات هي مدة انفصالي عن زوجي تيلاك – كنت على وشك اﻻنتحار. ولكن لست ادري ما كان يمنعني. كم من المرات طغت على نفسي ظلمة الياس ، وشعرت بانني اتخبط وﻻ ادري اين اسير، ولكن اليد اﻻلهية كانت تقودني في الطريق. وهكذا لم تشا العناية اﻻلهية ان اموت، بل ان احيا واخبر باعمال الر
**
بعد 3 سنوات ، حدث ان زوج اختى انتقل للعمل في بلدة “نجار”. لم اكن اعمل شيئا في “جﻻل بور” عدا العناية بابني اتو. وكنت اقضي سحابة يومي اردد اﻻيات الهندوسية واعبث بحبات مسبحتي واعذب نفسي باﻻصوام الكثيرة اتردد على المعابد لتقديم القرابين، واكرر اسماء اﻻلهة حتى تتحنن عليّ وتعيد اليّ تيلاك.
وفي “جلال بور” كان هيكل عظيم للاله القرد “هانومان” .. كنت اذهب اليه كل ليلة، واضع حجرا فوق راس التمثا حتى ارغمه على تنفيذ رغباتي في عودة زوجي اليّ. وكنت في احيان اخرى اكتب اسم اﻻله “راما” على قطع صغيرة من الورق واضعها على راس التمثال تاركة اياها تنزلق الى قدميه. وكنت اعتقد ان هانومان الخادم المخلص لراما لن يسمح بان يتلوثﻻسم راما المقدس بالوصول الى قدميه حتى تتحقق رغباتي.
وكانت خطابات تيلاك تردني كل يوم. كانت بعض اﻻحيان ﻻ تزيد عن سطور قليلة تفيض بالغضب والثورة. وفي شدة ثورته كان في بعض اﻻحيان ، ﻻ يكتب كلمة واحدة، وتصل الرسالة مجرد ورقة بيضاء.