بقلم: سليمان نصيف
..لم تكن لصاحبنا “ميخائيل” اﻻ امنية واحدة عاش لها، وهام بها، واستغرق فيها، فاصبحت هي الطعام الذي يقتات به، والشراب الذي يرتوي منه، والطيف الذي يخايله ما اصبح وما امسى. كانت هي احلامه اذا غفا، وموضوع تاملاته اذا اصبح، وقد مرت عليه فترات من حياته خيل اليه اثناءها ان كل من حوله يناجيه بها ويحدثه عنها. كان يخرج الى شط النيل فتحدثه البراعم من وراء اكمامها عنها، وتنشد الطيور الحانا تردد صدى خلجات قلبه التي يخفق بها..
اما قريته فقد كانت قرية فقيرة من قرى الصعيد، وجوه اهلها شاحبة، واجسامهم نحيلة، مساكنهم اكواخ حقيرة تجوس فيها الحشرات وانواع الدبيب اﻻخرى في احيان كثيرة التي تاتيها من باطن الجبل فتنبعث بسببها صرخات الكبار والصغار على السواء.. وهل يملكون سوى الصراخ؟ فما حيلتهم وليس في قريتهم مركز اسعاف واحد؟ ان الدولة ﻻ تعترف بقريتهم : فلا مدرسة وﻻ مستشفى وﻻ مركز اجتماعي او رياضي..
وكان اغلب سكان القرية من اﻻقباط .. لكنهم عاشوا زمانا طويلا دون ان تكون لهم كنيسة. ولكي يصلوا الى اقرب كنيسة كان عليهم ان يقطعوا بدوابهم ما ﻻ يقل عن عشرة كيلومترات. و قليلا ما كانوا يذهبون اليها، فقد عمّهم جهل بالدين واهميته! وانى لهم ان يعرفوا الدين او يخبروا اهميته، وهم الذين لم يفتقدهم راع او يطوف بهم مبشر!
اما ميخائيل فقد عزم ان يبني الكنيسة. كان عقله الباطن يرى الكنيسة في كل ما حوله من مظاهر الحياة ومن اشكال الطبيعة. ففي وسط السماء لمح قبابها، وقد التفت بقية السماء حولها. وارتفع الصليب منيرا فوقها. ومن وراء اﻻفق خيل اليه انه سمع جلجلة اجراسها تدوي، وكانها تدعو المؤمنين الى العبادة والتسبيح. وتحت صفحة مياه النيل التقى خياله بمغطس المعمودية يستقبل اﻻطفال فيخرجون منه كطغمة من طغمات الملائكة.
هكذا كان يرى ميخائيل الكنيسة في السماء وعلى اﻻرض وتحت الماء. يراها تقدم بركة للحياة وخلاصا للروح .
لكن من اين له المال لاتمام هذا العمل؟ ان ما يملكه ﻻ يزيد عن عدة قراريط من اﻻرض يزرعها بالفول ثم يقوم بتدميسه وبيعه. ثم انه ينفق على “كوم لحم” – والده ووالدته الشيخان وزوجنه واطفاله الخمسة. كان يكسب بالكاد قوت يومه، ومع ذلك كان يحفظ يوم الرب. ففي يوم اﻻحد صباحا يرتدي جلبابه النظيف، ثم يصحب معه اكبر اوﻻده الى كنيسة البلدة المجاورة، ولوﻻ اشفاقه على اوﻻده الصغار من حر الظهيرة في الصيف وبرد الشتاء ﻻصطحبهم معه جميعا معه ليتمتعوا ببركة صلاة القداس. وطالما كان يطلب في لجاجة وايمان ان يسمح الرب ببناء كنيسة في قريته. ومع انه لم يتلق من التعليم اﻻ النذر اليسير الا ان حياة التقوى التي كان يحياها انارت بصيرته وجعلته شيخا حكيما مع انه لم يكد يتعدى طور الرجولة.
كانت روحياته تنعكس على كل جوانب حياته فهو الزوج الوفي واﻻب الشفوق والبائع اﻻمين الذي يجذب الذبائن بابتسامته الصافية وكلامه الحلو.
ودأب ميخائيل على اقتناص كل فرصة تتاح له في الحديث مع ذبائنه عن اهمية الكنيسة .. وكان جلهم يومئون برؤوسهم مشفقين عليه من كثرة التفكير في مشروع بعيد عن امكاناتهم بعد السماء عن اﻻرض، اما القلة فكانوا يكتفون ببعض اﻻلفاظ المشجعة يختمونه بالجملة الشهيرة “ربنا قادر على كل شئ”.
وخطر له ذات يوم ان يحادث العمدة في هذا الموضوع. وكان العمدة رجلا فظا يعمل جاهدا على التقرب لكل ذي سلطة. فما كاد يسمع عن الغرض من الزيارة حتى انتهر ميخائيل وكاد يصفعه وهو يطرده متوعدا اياه باقصى العقاب ان هو عاود التفكير في هذا الامر.
لكن ميخائيل لم يياس ، فقد عاد في ذلك اليوم الى اسرته واﻻبتسامة تطفح من وجهه. وعندما جلسوا الى العشاء قال لهم “سنبني الكنيسة”. فتساءل احد صغاره: “العمدة وافق؟” فاجاب “ﻻ”. غفال ولد اخر “كيف ها تبنى اذا؟” فاجاب في ايمان “سوف تبنى وخلاص – عمل الله ما يقوم اﻻ وسط الصعوبات لكي ﻻ نكون متكلين على انفسنا بل على نعمته هو”. ثمجاء افراد اسرته قبل النوم وفتح السفر اﻻول للملوك وراح يقرا لهم في اﻻصحاح اﻻول عن بناء بيت الرب وكيف كان امنية غالية في عهد داود لكنها لم تتحق اﻻ في عهد ابنه سليمان بعد عشرات السنوات. ثم صلي معهم واضعا طلبته بناء الكنيسة.
وعاد يوجه اهتمامه بمحاولة اخرى: عزم على مقابلة اﻻب اﻻسقف. فاخذ يقتصد من نفقاته الضرورية. القرش تلو القرش حتى استطاع ان يوفر تذكرة القطار. وانتهز يوم احد فاستقل القطار. كان اﻻسقف متقدما في السن طيب القلب، فدعا له بالبركة ثم كتب خطابا الى اهل البلد – وعلى راسهم العمدة – يدعوهم الى تشجيع المشروع. وقرا العمدة وهز راسه وقال “لما اتقابل مع نيافته سوف اتحدث معه في هذا الموضوع”.
ومرت اﻻسابيع والشهور ولم تتم مقابلة ولم يحدث حديث. لكن ميخائيل لم يياس. وفي احاد ايام اﻻحاد وكان ميخائيل يسير على ضفة النيل، واذ بقدمه تصطدم بحجر فانحنى ليرفعه ويلقي بعيدا حتى ﻻ يصطدم به احد المارة. لكنه وجده ثقيلا، فتركه وتابع سيره قائلا في نفسه: “ان المارة قس هذه الناحية قليلون، وان في امكانهم ان يروه فيتجنبوا الاصطدام به”. لكنه وهو يحدث نفسه بهذا واذ بابنه اﻻكبر يلتقيه ، حيّاه وقبل يده، وساله “ماذا بك يا والدي؟” فدعاه اﻻب الى معاونته في رفع الحجر، وبعد محاولات عديدة نجحا اخيرا في دحرجته جانبا عن الطريق. لكن الفتى لمح تحت الحجر احجارا اخرى مرتبة الواحد فوق اﻻخر في شكل درج ، فصاح في ابيه “ابي، انظر، سلم نازل لتحت!” فاجابه ابوه “ماذا؟ سلم؟” “نعم يا ابي تعال وانظر!” واخذا اﻻثنان ينزﻻن، لكن الظلام كان قد بدا يسدل ستاره فاسرع الفتى الى الدار واحضر مشعلا، وكشف لهما الضوء الطريق فنزلا الدرج فاذ به يصل الى بهو فسيح دخلا فيه. واخذا يسلطان الضوء على سائر انحائه ، فذهلا لما رايا واخذت الدهشة منهما كل اخذ. فقد كشف الضوء عن اعمدة مقامة على الجانبين فسارا ليريا اﻻم ينتهي. فانتهيا الى حاجز كبير من الخشب في وسطه باب دلفا منه .. وامسك ميخائيل المشعل وفجاة دوت منه صرخة شقت افاق المكان، واهتزت يده، وكاد يسقط المصباح فاسرع اليه ابنه يسنده متسائلا عن السبب، لكن اﻻب لم يمهله اذ قال في ذهول “اسرع بنا نخرج. اخلع حذائك ﻻن اﻻرض التي نقف عليها ارضا مقدسة” .. هذا المكان هيكل يا بني، وفي وسطه المذبح.
.. واختلطت دموع اﻻب بدموع ابنه وانطلق الفتى يقول “ربنا استجاب طلبتك يا ابا” يا سلام يا ربي كم انت حنون .. كنيسة جاهزة .. ذلك انه لمح انية المذبح ملفوفة كما لو كانت معدة للخدمة.
واستقل ميخائيل القطار . وفي الطريق كان يحدث نفسه “انها وﻻ شك احدى الكنائس ابان عصور اﻻضطهاد .. ياه، كم احب ابائي اجدادي العبادة؟ ان عائقا ما لم يمنعهم ابدا عنها.. لكن يا ترى على اسم من من القديسين بنوها!”.
وانصت اﻻب اﻻسقف الى عم ميخائيل في اهتمام بالغ وقال مشجعا “هذه يا بني ثمرة ايمانك”. وكتب اﻻب خطابا للعمدة ينبئه فيه بانه قادم لزيارة قريته بعد يومين ﻻمر هام.. وفي القرية النائية تسامع الناس عن قرب زيارة اﻻسقف لقريتهم. وتساءلوا “فيم يا ترى يكون هذا اﻻمر الهام”.
ووصل اﻻب اﻻسقف فقابله الشعب بحفاوة وتكريم بالغين. ونزل اﻻسقف في دوار العمدة. وفي ساعة متاخرة من الليل طلب من العمدة ان يختلي به هو والعم ميخائيل. وطلب اﻻسقف من العم ميخائيل ان يقص قصة اكتشافه للكنيسة.
وفي الصباح سار ثلاثتهم الى الكنيسة .. ولمح ميخائيل الحجر الذي اوصله الى اكتشاف الكنيسة وهو ملقى جانبا واشار بيده منبها اﻻسقف قائلا “اهو .. هذا الحجر الذي عثرت به يا سيدنا” ودخلوا الكنيسة. وراى اﻻسقف على حامل اﻻيقونات كتاب قبطية تشير الى ان الكنيسة باسم الملاك نيخائيل.
وفي اﻻحد التالي دعا اﻻسقف شعب البلدة ال حفل بمناسبة افتتاح الكنيسة. وكان قداسا احتفاليا رائعا حضره شعب البلدة جميعا واشترك فيه اغلب كهنة اﻻيبارشية. وسام اﻻسقف ميخائيل كاهنا للبلدة وقد وافق شعب الكنيسة عليه باﻻجماع..
وعندما هم اﻻسقف باﻻنصراف، قال له ابونا ميخائيل مودعا “سوف احتفظ بهذا الحجر يا سيدنا” فاجابه اﻻسقف والقطار على وشك التحرك “لا مانع. واكتب عليه حجر المعونة لكي يكون تذكارا مثل الحجر الذي نصبه صموئيل قديما ودعاه “حجر المعونة وقال “الى هنا اعاننا الرب”(1صم7: 12).