مذكرات راهب

من مذكرات راهب
عن كتاب: الراهب و اللص
تاليف: اﻻنبا مكاريوس اﻻسقف العام

ذات مرة بينما كنت اجلس على حافة النهر اصلي صلواتي السهمية، وكان مطلوبا مني وقتها عمل خمسين سبحة، ولهذا تدبير الدير الذي بدات فيه حياتي الرهبانية، فقد تسلمت في البداية ان نردد الصلوات السهمية بان نقول كل مقطع مع حبة نحركها من حبات السبحة الثﻻث والثﻻثين: “يا ربي يسوع ارحمني، يا ربي يسوع اعني، انا اسبحك يا ربي يسوع”. ففي اﻻيام اﻻولى نتدر على سبحة واحدة، ومن بعد اسابيع عدة سبحات في اليوم، حتى نصل خلال السنة اﻻولى الى 30 سبحة او 50 سبحة في اليوم الواحد، حتى نعتاد من ثم ان نرددها تلقائيا دون ان يرتبط ذلك بوجود سبحة في ايدينا او احصاء لعدد ما نردده منها، وهو تدبير تسلمناه من القديس انطونيوس والغرض منه هو ربط الفكر بالمسيح طوال الوقت. كما ان ترديد اﻻسم الحلو الذي لربنا يسوع المسيح يبدد خيالات الشياطين اﻻردياء ويقدس الفم والمكان، وبهذا نمارس الصلاة الدائمة التي اوصانا بها الرب واعطانا ذاته مثاﻻ فيها.
يومها وبينما كنت اصلي، كنت اصنع

سبحة جديدة من الصوف، ولما كنت منشغلا في هذا وذاك، اذ بي اسمع وقع اقدام اتيا من الخلف، وﻻننا تدربنا على عدم اﻻلتفات حولنا او خلفنا بالتالي فاني لم اعر الصوت اهتماما، حتى شعرت بيد تربت على كتفي، وهنا قط التفت الى اعلى ﻻرى راهبا عجوزا قصير القامة يبتسم لي في حنو، فقمت من فوري ووقفت مقابله وامسكت يده بكلتا يدي وقبلتها مرارا، ثم اشار الي بالجلوس، وبعد دقائق من الصمت لعله كان فيها يجمع افكاره كما تسلمنا في الحياة النسكية، نظر الي مليا، وقال: “انا راهب مثلك، اسكن بدير على بعد من هذا المكان، لست سائحا وﻻ متوحدا وانما فقط خرجت ﻻسير في البرية اتامل عجائب الله”.
فقلت: لماذا ؟ وكم لك من الوقت في هذا التجوال؟
اجاب بانه لم يكمل يوما واحدا، وانه يفكر في العودة ادراجه الى مكانه، ولما عرضت عليه المبيت ريثما ينبلج نور الصباح، تمنع قبل ان يوافق مضطرا.
**
احضرت من الكوخ بعضا من الخبز والبلح وبرتقالتين قاربتا على الذبول، قلم يعترض ويبدو انه كان جائعا جدا، ومع ذلك فقد تناول شيئا يسيرا منها، وبعد ذلك سالني من غير تطفل عن سبب وجودي في ذلك المكان وكم لي من الوقت في الكوخ ورويت له قصتي ببساطة وانني لم اخرج بفكر خاص وانما بتدبير ابي الروحي.
سالته كم راهب في الدير الذي يحيا فيه؟ فقال: “ﻻ اعرف” فتعجبت: “اﻻ تعرفهم؟” قال “وجوههم مالوفة لي، ولكني ﻻ اعرف اسماءهم وﻻ استطيع تمييز احدهم عن اﻻخر، احبهم جميعا واتبارك منهم، وتعلمت وما زلت اتعلم منهم الكثير، ولكن دونما علاقة خاصة او دالة باحد منهم، وﻻ اتذكر انني شخصت طويلا في وجه راهب ولم املا عيني من انسان، ولم ازر راهبا في قلايته ولم اتناول طعاما في قلاية احد، وربما كانت زيارات معدودة لبعض المرضى من اﻻباء. وكان عملي بالدير هو اﻻهتمام بمزرعة صغيرة ﻻ تتعدى مساحتها الستة قراريط”. سالته: “كيف حدث ذلك؟” فقال:
“ذات يوم اخذني رئيس الدير جانبا، وطلب مني اﻻهتمام بالمزرعة بعد نياحة اﻻب المسئول عنها وكان شيخا وقورا، وتسلمت المزرعة، ويومها وجدت فيها كوخا من الخوص وبداخله منجلية بسيطة مصنوعة من فرع شجرة وفوقها ابصلمودية عتيقة، والى جوارها فراش بسيط من الحصير وقدر ماء وموقد كيروسين ذو الشرائط (ستفة)، وادوات زراعية بسيطة مما يلزم العمل في اﻻرض”.
لم تكن لي خبرة بالزراعة فلم اكن مزارعا وانما كنت صانع احذية في متجر صغير ﻻبي في قرية بميت غمر، ولكني فرحت بهذا النوع من العمل الهادئ البسيط والذي تعلمت منه كثيرا، فقد كنت اتخيل “الزارع الذي خرج ليزرع” كما شرح السيد المسيح.. وكنت اردد اثناء ري اﻻض “ليرو حرثها ولتكثر اثمارها..”، وكنت كل يوم امر وسط اﻻرض بايمان عميق وانا موقن ان البذار تنمو “ليس الغارس شيئا وﻻ الساقي بل الله الذي ينمّي”.
**
ذات يوم وبينما كنت اتمشى بين الزروع، لمحت ثعبانا كبيرا يقبع في مكان رطب، وكان معي احد العمال والذي همّ بان يهوى عليه بالفاس ولكني منعته، ﻻنه لم يؤذنا، ولما احتج العامل بانه علينا اﻻ ننتظر حتى يفعل، نهرته بلطف وقلت له انه احد خﻻئق الله، واﻻفضل ان نصرفه بدون اذىة، وبالفعل القينا حجرا عن بعد الى جواره فتحرك من مكانه، وتتبعناه الى ان خرج الى الصحراء وانطلق الى حال سبيله. وكنت اقول لهم: على رجل الله ان يكون مسالما لجميع الناس والخلائق اﻻخرى، واﻻ تكون فيه اية ميول عدوانية بل ليكن صديقا للوحوش والحشرات والطيور، وهو – اي اﻻنسان – وان كان يضطر ان يحتمل اذى البشر فكم باﻻحرى يجب عليه ان يكون هكذا مع الخلائق الضعيفة”.
**
الحقيقة انني قررت ان اعيش بلا هم، وان احرص اﻻ تكون لي خصومة مع اي كائن كان: انسان او غير انسان، بل لقد كنت اترفق بالشجر والحجر والثياب التي ارتديها، واتذكر انني لم التفت يوما الى صحيفة ملقاة، ولم اقرا كتبا اﻻ الكتاب المقدسة، ولم اعط الفرصة مطلقا ان انخرط في احاديث غير رهبانية..
**
كنت سعيدا بعملي في المزرعة سعادة بالغة، واضطررت ذات يوم للمبيت هناك، وبعد صلاة نصف الليل خلدت الى النوم وكانت الساعة تشير الى الواحدة صباحا، وكان الجو ينذر بسقوط اﻻمطار وهذا هو سبب قراري بالمبيت تلك الليلة في الكوخ الذي يبعد عن الدير حوالي الكيلومتر. ولم يكن باب الكوخ محكما بشكل جيد بل كان من السهل فتحه من الخارج، وانتبهت الى صوت حفيف ثم خشخشة ثم ازيز خفيف، ولما فتحت عيني لم اتبين شيئا في الظلام، ولم اقم من نومي، كما انه لم يعترني خوف، وبعد لحظات شعرت بحيوان يتسلل الى داخل الكوخ، وحبست انفاسي ليس بسبب الخوف وانما لكي ﻻ ازعجه، فقد فهمت بسرعة انه حيوان من الجبل ﻻ اعرف نوعه قد اختار ان يحتمي تحت سطح كوخي، فلم اتحرك من مكاني، ولوﻻ معرفتي ان الحيوانات تخاف النار لنهضت واشعلت بعض اﻻعواد ليستدفئ، ومن ثم خلدت الى النوم من جديد بعد ان رشمت ذاتي بعلامة الصليب.
وعند الفجر شعرت بحركة عند قدميّ، واذا بذلك الحيوان يلعق قدميّ، فقمت بهدوء ورحت اربت على جسده برفق، وقدمت له شيئا لياكل، ولكنه اشاح بوجهه عن طعام ﻻ يناسبه، لقد كان ذئبا كبيرا، ولكني لاحظت ان قدمه اليمنى مرفوعة قليلا عن اﻻرض، فانحنيت ﻻنظر، فاذ بها مصابة، علمت ﻻحقا ان بعض العمال طردوه فهرب الى مكاني، فاستخلصت شريطا من القماش من ثيابي ونظفت الجرح برفق ثم ربطتها بهدوء وربت على ظهره ولما حاول الخروج تعثر في مشيته، ومن ثم فقد اثر الرقاد من جديد فتحول بجسده ليرقد في عناء، والتزمت انا الهدوء، ووقفت ﻻسبح دون صوت يسمع، حتى اذا ما استراح من جديد نظر الي نظرة ذات معنى ثم خرج.
شعرت بسعادة غامرة في ذلك اليوم، ولم احك ﻻحد شيئا مما حدث، وبعد ايام وقد نسيت اﻻمر وكنت اقضي الليل ايضا في الكوخ، احسست بحركة في الخارج، ولما خرجت ﻻستطلع اﻻمر وجدت ذلك الذئب مجددا ولكن ﻻ اثر للجرح وﻻ الضمادة، واوما وكانه يستاذن في الدخول، وهللت له فدخل ونام في جانب من الكوخ من الداخل، ولما كنت قد ﻻحظت في اﻻيام السابقة انه توجد امام الكوخ بعض ثمار الفاكهة، وكنت اظن ان راهبا يضعها لي مثلما اعتدنا جميعا على ذلك، فاني لمحته في ذلك اليوم يحمل في فمه ما يشبه الصرة الصغيرة، ولما وضعها فوق اﻻرض فضضتها ﻻجد بها بعضا من ثم الجوافة، وعندئذ علمت مصدر ما كنت اظنه من اﻻباء.
وصرنا صديقين حتى انني اصبت بحمى ذات يوم، وﻻن الرهبان اعتادوا اﻻ يرونني باﻻيام فقد التزمت الكوخ ولم استطع الخروج منه، واذ بي اجد صديقي وهكذا كنت اصفه واناديه- ياتي ويقيم اﻻيام الثﻻثة ايام الى جواري، ﻻ يستطيع بالطبع ان يفعل شيئا، ولكنه كان يخرج ليعود ومعه بعض ثمار الليمون او البرتقال او الكمثرى، وكنت اربت على ظهره ﻻشكره، وكنت اتناول منها ما تيسر اكراما له حتى استعدت عافيتي، واتذكر انه كان كثيرا ما يلعق قدمي وانا نائم اعاني من الحمّى”.
كان الراهب يروي قصته وانا متعجب جدا مما اسمع، ثم تحدثنا في امور اخرى كثيرة ﻻ اذكر اغلبها، ولكني شعرت انني امام ادم الذي كان يحيا مع الوحوش والطيور في سلام ووئام، وتذكرت قول الحكيم “اذا ارضت الرب طرق انسان جعل اعداءه ايضا يسالمونه”.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s